من يقتل اللبنانيين والعراقيين؟

جان كورد

الأمريكان، اسرائيل، الاستعمار، الامبريالية… المجوس… قائمة طويلة من المتهمين، فالعرب لايمكن أن يقتلوا أحداً لأنهم مسلمون، وحتى تدمير برجي التجارة العالمية مؤامرة أمريكية – صهيونية مثل مؤامرة القضاء على الخلافة العثمانية… وكل الحقائق والشهادات التي تقدّم أثناء محاكمة “المجاهد الأكبر! صدام حسين ” هي مزوّرة ومدفوع لها المال الوفير، وكل تلك المقابر الجماعية تعود إلى زمن الحرب الايرانية الهمجية على الأمة العربية في ثمانينات القرن الماضي، ومئات الألوف من الكورد والعراقيين الآخرين الذين انتزعوا من بين أطفالهم أو مع أطفالهم ولم يعودوا إلى يومنا هذا قد أخذتهم صحون طائرة إلى حيث لايدري أحد، وما يقال عن “حلبجة” و”الانفال” دجل تاريخي لايقل كذباً عن “الهولوكوستمحرقة اليهود” أثناء حكم النازية الألمانية….

وكذلك مئات القصص الأخرى التي يراد بها طعن العرب، وإغضاب العرب، وإذلال العرب….!!!

هذا ما اعتدنا أن نسمعه، كلما أريق دم في شوارع لبنان أو العراق أو بلاد الشام..

فلا تقارير تحقيقات ميليس الألماني ولا تدقيقات براميرتز البلجيكي ، ولا أي محكمة دولية يمكن أن تغيّر من الحقيقة التي امتزجت بدماء الكثيرين من أبناء وبنات الأمة العربية، هذه الحقيقة التي تقول بأن العرب أرحم من في الأرض على الإطلاق، مع غيرهم من البشر، فكيف يكونون سفّاكي دماء بعضهم بعضاً…

ولكن التاريخ يذكر لنا بالتفصيل ما قام به هؤلاء العرب الرحماء، فلنعد إلى كتبه التي نقلت لنا تفاصيل مسلسلات قطع الأعناق منذ أن أسلم خالد بن الوليد وإلى أن انهزم جيش البعث العربي الاشتراكي على ضفاف الفرات ودجلة مؤخراً… حتى اشتهر المثل العربي “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق“…

لماذا يتهرّب العقل العربي من قول الحقيقة أحياناً، فالقرآن الكريم الذي يحتّل أهم موقع في الفكر العربي يقول عنهم بأنهم كانوا أمّةً من “الأميين” قبل الإسلام، والرسول الأكرم (ص) كان أميّاً رغم أنه عاش   في أهم قبيلة عربية وبيت بني هاشم المعروف بصيته وتجارته ومركزه الاجتماعي، ولم ينكر في يوم  من الأيام أنه كان أميّاً، إلاّ أن القوميين العرب زوّروا التاريخ بقصة “المعلّقات العشر” وب”حضارة عربية” قبل الإسلام، حتى ظهر في أواسط القرن الماضي من لخّص تلك الحضارة بعبارة “حضارة الجمل“… وجمع كل تلك الحضارة بحيث يمكن أن يحملها جمل واحد.

معلوم لكل قاص ودان أن الجاهليين العرب اجتمعوا بهدف الغدر برسول الله (ص) ولقتله، حتى أضطّر إلى الهجرة من مكّة المكّرمة، موطنه الأول، وأن المسلمين العرب قد قتلوا حفيده الحسين أشنع قتلة ، وقطعوا رأسه وأخذوا به إلى الملك الأموي لينالوا عليه ذهباً ومناصب…وحوّلوا دولة هذا الرسول  القائمة على الدين إلى دولة ملكية أموية دموية، ومن ثم عباسية لم تتوّقف فيها السيوف يوماً عن الذبح والتقتيل الشنيع … حتى خرج أحدهم على الناس ليقول عبارته الشهيرة: “إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها…” فها هي كتب التاريخ ليعودوا إلى ما فعله خالد بن الوليد بأعدائه، وما فعله اليزيد وغيره من الذين أوصلهم بعض المخلصين لتلك العقلية إلى مرتبة العظماء الذين يجدر بكل طفل مسلم في العالم أن يفتخر بجرائمهم الشنيعة التي لاتحصى… أنا لم أر رحمة في تصرّفات ملوك العرب “الفاتحين!” إلا لدى القليل منهم ، وفي مقدمتهم الرجل الكبير والجليل عمر بن عبد العزيز وبعض الآخرين، رضي الله عنهم وأدخلهم فسيح جنانه…

كيف لايقتل العربي العربي والعراق العربي كلّه أصبح مذبحة للأبرياء من البشر الذين لايريدون سوى لقمة العيش الشريفة في الحرية؟ فهل هم حقاً الأمريكان الذين يقيمون هذه المسالخ البشرية في الأسواق والمساجد والطرقات العامة، ويقتلون الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات وينحرون الخراف البشرية كل يوم؟ … حيث لم يبق شارع عراقي لم تغسل منه الدماء…

قال لي أحد هؤلاء، الذين لا يزالون يعتقدون بأن صدام حسين وزمرته الحجاجية قدس من أقداس الأمة العربية، بأن كل مايحدث في العراق من عمليات إرهابية ترتكب من قبل الجنود الأمريكان دون غيرهم، والعراقيون لايمكن أن يقتلوا بعضهم بهذه الصورة الوحشية الأليمة…فهذا عمل “الكفاّر وليس المسلمين!” فهل هذه هي الحقيقة فعلاً، وهل المقبوض عليهم في العراق من العرب الذين كانوا يقطعون رؤوس الناس أبرياء حقاً؟ وهل صدام وزمرته أبرياء حقاً؟

سواء في العراق أو في لبنان أو في بلاد الشام، هناك فكر سائد وعقلية متوغلّة في الرؤوس، تستبيح إراقة الدماء وقطع الرؤوس وتفجير الأجساد، وهي عقلية ذات جذور تاريخية، إنها صور مرعبة تذكّرنا بذاك القائد العربي الكبير الذي جعل من جسد خصمه المذبوح وسادة وضع رأسه عليها ونام مرتاح البال وهادىء الروح، أو ذلك الملك العربي الذي ما كانت الشمس تغيب عن ملكه وهو يتلّهى ويلعب برأس خصمه  المقطوعة بالسيف في قصره البديع، أو تلك المرأة التي انتزعت كبد عم الرسول (ص) “حمزة” (رض) لتلوكها… ولم يتمكّن الدين من إلغاء هذه العقلية أو دفنها رغم مئات الآيات التي نزلت حول الرحمة ، بل على العكس من ذلك تم استغلال الدين استغلالاً وحشياً لتبرير مثل هذه الأفعال اللاإنسانية الشنيعة، واعتبار القيام بها لوناً من ألوان التقرّب إلى الله عزّ وجل… حتى وصل الأمر إلى درجة أن قاطع الرؤوس يبسمل بإسم الرحمن الرحيم قبل أن يقوم بعمله الدنيء الاإنساني…

منذ اغتيال الزعيم اللبناني الكبير كمال جنبلاط ومروراً برئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وأكثر من عشرين إنساناً كانوا برفقته وإلى اغتيال الوزير الشاب بيار الجميل مؤخراً يتساءل الناس عمّن يقتل اللبنانيين بهذه الصورة الفظيعة التي لارحمة ولا شفقة ولا إنسانية فيها؟ إلاّ أنني واثق من أن هؤلاء، مثلهم مثل كل ضحايا الأنفال وحلبجة والمذابح اليومية في العراق العربي الجارية على قدم وساق، هم ضحايا عقلية متخلّفة وهمجية وإجرامية لاتتمكّن من استيعاب التغيّرات الكبرى التي حدثت في عالمنا المعاصر، وكأن على عيونهم غشاوة، وهي عقلية “القبضاي الفرعوني” الذي لايريد أن يرى البشر سوى ما يريده هو، والذي لايقبل بأن يترك القصر حتى يرمى به في القبر، والذي لم يتعلّم الحوار في بيته ومدرسته وجامعته وحزبه ودولته…إنه بنفسه ضحية تفسيرات وتأويلات خاطئة ومتجذرة في العقل العربي حول مغزى الدين وهدف الدين ورحمة الدين…

التاريخ فيه عبر ومواعظ، والعودة إليه نافعة، ولكن عندما تذكّرهم بتاريخهم، يقفزون من مقاعدهم زاجرين ومتوّعدين، ويصرّون على أن تنظر إلى التاريخ الدموي للاسبانيين في أمريكا اللاتينية أو الفرنسيين في أفريقيا أو الانجليز في آسيا أو في أمريكا…أو يذكّرونك بتاريخ الصليبيين لدى اقتحامهم بوحشية مدن بلاد الشام واحدة بعد الأخرى، ويحدثونك عن عدالة الإسلام وعيونهم تفيض بالدمع، وكأنك لاتعلم عن تاريخ الآخرين شيئاً، والحقيقة أنهم يسعون بشتى الوسائل تبرير سفك الدماء من قبلهم، سواء في العراق أو في لبنان… وهكذا ندور في حلقة مفرغة وفي وسط دائرة من النار القوّية، لانتمكّن من الخروج إلى العالم الرحب الكبير، ونظّل في قوقعتهم المتينة وشرنقتهم الضيقة التي لن يتسلل إليها نور الحرية بسهولة..

القتلة معروفون، سيماهم في وجوههم من أثر الإرهاب والتقتيل، وهم يعيشون بيننا ولم يأتوا من أمريكا واسرائيل واليابان وبريطانيا، وانما هم عرب أقحاح، من المجرمين الذين لايجدون حرجاً في تحطيم العوائل وتدمير البلدان ونسف الكرة الأرضية كلها طالما يخدم ذلك أهدافهم ومخططاتهم وسياساتهم القذرة… وإلاّ فلماذا هذا العمل المتواصل من أجل عرقلة انعقاد “المحكمة الدولية” التي من المزمع أن تنظر في مسلسل الاغتيالات التي حدثت على الساحة اللبنانية منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وإلى الآن؟ فإذا كانت اسرائيل أو أمريكا وراء تلك الجرائم فسينكشف أمرها وستظهر الحقيقة للناس…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صدرت للكاتب والباحث د. محمود عباس مؤخراً ثلاثة كتب جديدة، وبطباعة فاخرة، ضمن سلسلة مخطوطاته التي تتجاوز الأربعين كتابًا، متناولةً القضايا الكوردية من مختلف جوانبها: النضال السياسي، والمواجهة مع الإرهاب، والتمسك بالهوية الثقافية. تُعدّ هذه الإصدارات شهادة حيّة على مسيرة د. عباس، الذي يكتب منذ أكثر من ربع قرن بشكل شبه يومي، بثلاث لغات: العربية، الكردية، والإنجليزية. إصدارات الدكتور محمود…

اكرم حسين تستند الشعبوية في خطابها على المشاعر والعواطف الجماهيرية، بدلًا من العقلانية والتخطيط، حيث أصبحت ظاهرة منتشرة في الحالة الكردية السورية، وتتجلى في الخطاب السياسي الذي يفضل دغدغة المشاعر الجماهيرية واستخدام شعارات براقة، ووعود كاذبة بتحقيق طموحات غير واقعية، بدلاً من تقديم برامج عملية لحل المشكلات المستعصية التي تعاني منها المناطق الكردية. إن تفاقم الاوضاع الاقتصادية وانتشار الفقروالبطالة، يدفع…

خالد حسو عفرين وريفها، تلك البقعة التي كانت دائمًا قلب كوردستان النابض، هي اليوم جرحٌ عميق ينزف، لكنها ستبقى شاهدة على تاريخٍ لا يُنسى. لا نقول “عفرين أولاً” عبثًا اليوم، بل لأن ما حدث لها، وما يزال يحدث، يضعها في مقدمة الذاكرة الكوردية. لماذا عفرين الآن؟ لأن عفرين ليست مجرد مدينة؛ هي الرئة التي تتنفس بها كوردستان، والعروس التي تتوج…

خليل مصطفى ما تُظهرهُ حالياً جماعة المُعارضة السورية (وأعني جماعات ائتلاف المُعارضة المُتحالفين مع النظام التركي) من أقوال وأفعال مُعادية ضد أخوتهم السوريين في شمال شرق سوريا، لهي دليل على غباوتهم وجهالتهم ونتانة بعدهم عن تعاليم وتوجيهات دين الله تعالى (الإسلام).؟! فلو أنهُم كانوا يُؤمنون بالله الذي خالقهُم وخالق شعوب شمال شرق سوريا، لالتزموا بأقواله تعالى: 1 ــ (تعاونوا على…