مأساة الكورد… والأحزاب ‏

 جان كورد
 ‏
لايمكن في هذا اليوم المجيد بالذات من تاريخ الأمة الكوردية إنكار دور الحزب السياسي في دفع قضيتنا القومية العادلة صوب الأمام، وبخاصة فإن رجلاً عظيماً هو الرئيس الشهيد، القاضي محمد، المثقف السياسي والعالم الورع، كان قد أختير من قبل خيرة رجال الكورد ليقود الحزب الديموقراطي الكوردستاني، الذي أسس جمهورية كوردستان في هذا اليوم الذي سيبقى شعلةً وضاءة على مدى العصور لكل أحرار الكورد ومناضليهم.

ولكن، مثلما ترتبط انتصارات الكورد بنجاح أحزابهم السياسية في تحقيق مشاريعها وتنفيذ خططها وبرامجها، فإنها في الوقت ذاته أحد أهم أسباب المآسي المتتالية لهذه الأمة، وهذه حقيقة يجب الاقتراب منها والتأكد منها بدراساتٍ ونقاشات.

 

 فهل ينكر أحد أن الانشقاق الخطير في الحزب الديموقراطي الكوردستاني (العراق) في ستينيات القرن الماضي قد مهد لصراعٍ سياسي – عسكري شرس في ثورة أيلول المباركة، استغله النظام العراقي لالحاق أكبر الاضرار بالشعب الكوردي في اقليم جنوب كوردستان، وبالتالي فقد كان لذلك تأثيرات سلبية عميقة على سائر أنحاء كوردستان وعلى كفاح الأمة الكوردية جمعاء، وهل يمكن لأحد إنكار الدور السلبي الخطير للاقتتال “الأخوي!”  بين الأحزاب الكوردستانية الكبيرة، حزب العمال الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني والحزب الديموقراطي الكوردستاني والحركة الإسلامية في كوردستان العراق، بعد طرد المحتل البعثي من الاقليم وتحرير معظم أرجائه، في تسعينيات القرن الماضي أيضاً، على مجمل نضالاتنا التحررية؟

لندع أقاليم كوردستان الأخرى الآن، ولنركز اهتمامنا على الجزء الغربي منها فقط، فسنرى الأحزاب في تكاثر وتقاطر وتفاخر، على الرغم من تقاربها في الاسماء والمضامين والمطالب والتراكيب التنظيمية، وسنرى أنها عجزت حتى اليوم عن تحقيق أيٍ من أهدافها السياسية المعلنة في مناهجها وبرامجها، ولكنها مع ذلك مصرة على أن مصير الشعب الكوردي مرتبط بها وفي يديها قرار هذا الشعب المذبوح حقاً.

بل إنها صارت عالةً على قيادات الأجزاء الأخرى من كوردستان، وتأخذ من وقتها الكثير، بسبب عمق خلافاتها أو ابتذال بعض المجموعات المفترض فيها أن تتصرف حيال بعضها بعضاً بشكل أرفع مدنيةً ورفاقية ومثالية.
إن عمق واستمرار المأساة الكوردية “السورية” من عمق واستمرار المأساة التنظيمية لأحزاب الشعب الكوردي، فهل يعقل أن يكون لشعبٍ صغير بلا مؤسسات قوية، بلا ميزانية مالية، بلا سيادة على أرضه التي يعيش عليها، وبلا انتخابات بين مواطنيه، أن تكون له كل هذه “القيادات!”؟
بعضهم يقول:”شعب اسرائيل أيضاً له العديد من الأحزاب!” وهذا صحيح، ولكن من يخلط بين واقع شعبين مثل الشعب الكوردي “السوري” والشعب الاسرائيلي، لا يحتاج أن يجيبه المرء عن تصوراته البسيطة، فشتان ما بين الواقعين من مختلف الوجوه.

وهذا أيضاً في حال عقد مقارنة بين الشعبين اللبناني، الذي له دولة مستقلة ويعيش في حرية وديموقراطية والكوردي السوري.
في غرب كوردستان لا يستطيع حزب من الأحزاب الكوردية حل مشاكله المالية مع عائلة صغيرة، دون أن تحدث مشاكل أكبر، وفي غرب كوردستان يشكل حزب من الأحزاب بمفرده “مجلس الشعب!” وكأن كل الأحزاب الأخرى ميتة أو لا وجود لها، وفي غرب كوردستان لاتستطيع ممثليات كل الأحزاب مجتمعة في قرية من القرى النائية وضعٍ حد لتصرفات المختار الذي يعمل عميلاً للدولة أو يكلف من يراه مناسباً للتجسس على الأحزاب وأنصارها من الفلاحين… أليست هذه الأوضاع مأساوية؟
هذا يجري في ظل القمع المتواصل للنظام الدموي في البلاد، فلندع ذلك ولننظر إلى حال هذه الأحزاب خارج البلاد:
في مدينة ألمانية صغيرة، مثل بون التي كانت في الماضي عاصمة للبلاد، كانت جمعية المغتربين السوريين الموالية للنظام قادرة قبل سنواتٍ قلائل، على دعوة مئات من الكورد السوريين إلى اجتماعاتها وسلخ جلودهم مالياً بتبرعاتٍ واشتراكات، في حين أن كل ممثليات الأحزاب الكوردية السورية لم تكن قادرة على ملء باصٍ واحد من البشر لنقلهم إلى مظاهرة تندد بالسياسات الشوفينية التي يمارسها النظام ضد الشعب الكوردي.

وفي ألمانيا التي فيها آلاف وآلاف من الكورد السوريين حاول بعضهم الانتساب إلى حزبٍ كوردي عريق فلم يجدوا سوى المسؤول الحزبي وحده وأرشيفه في ألمانيا، بدون أعضاء، وبدون أي أثر لوجود تنظيم بهذا الاسم الكبير للحزب.

كما في ألمانيا هذه التي تعج بالكورد الناشطين يتمكن كوردي، ينتقل بين سوريا وكوردستان وأوروبا، من الوصول إلى أعلى المراتب الحزبية في تنظيم سياسي كوردي حداثوي، بعد انضمامه للحزب، في أقل من 3 سنوات فقط، بناءً على نصيحة له للانتساب إلى هذا الحزب بالذات من صديقٍ له من خارج الحركة السياسية الكوردية، بل ويمثل الآن حزبه في مؤتمرات المعارضة السورية على مستويات رفيعة إلى جانب كوادر لهم أكثر من خمسين سنة في أحزابهم الكوردية… وقد يجلس إلى جانب أمينه العام في المؤتمرات الكوردية لينافسه على منصبه وهو يقول له من باب المزاح الرفاقي: أنا أكثر منك مالاً وعددا…
أليست هذه بماساة سببها كثرة الأحزاب وتوالي انشقاقاتها وتسيب بعض شرائحها وزعاماتها وكوادرها المفصلية؟ وبسبب ذلك لاتوجد لهم قواعد تنظيمية أو أنها ضعيفة غير قادرة على منافسة جمعية مغتربين معادية للشعب الكوردي.
أليست مأساة أن لاتوجد قاعدة ما لاختيار المندوبين المستقلين إلى المؤتمرات الكوردية، ومنها المؤتمر المزمع عقده قريباص؟ وإنما يتم ذلك على قاعدة: من مع حزبي ومن أشياع سياستي فهو الوطني والمثقف والمناضل، ومن ليس معي فهو ضد الكورد وكوردستان؟ وأن يتم رفض مساهمة مناضلين سياسيين أو مثقفين معروفين بتفانيهم في سبيل قضية شعبهم لعقودٍ من الزمن في هذه المؤتمرات، في حين يتوسل بعض زعماء حركتنا وكوادرهم لمن ثبت تعاونهم مع النظام لحضورها معهم معززين مكرمين؟
فما العمل لانهاء هذا الوضع المأساوي؟
بالتأكيد لا توجد “روجتة” طبية أو سياسية كالتي كتبها الأستاذ القدير والعالم الرباني سعيد النورسي تحت عنوان “روجتة الأكراد”، ولكن بالتأكيد هذه المؤتمرات ليست نهاية التاريخ، والطريق الكفاحي لا زال طويلاً، وهذه التصرفات الخرقاء بأشكال مختلفة لروح التنظيم السياسي، الذي كان مقدساً في يومٍ من الأيام، لن تدوم إلى الأبد، وبخاصة فإن وعي شعبنا في نمو وانتعاش على الدوام، والشباب الكوردي يحدق في هذا المشهد الماساوي بعيون ناقدة…
وبرأيي، إن الفرصة مؤاتية، وبخاصة في المؤتمر الكوردي السوري القريب عقده، على نفقة الإخوة الكوردستانيين وتحت رعايتهم الكريمة، أن يتم حل كل هذه الأحزاب المشاركة فيه، واعادة بناء تنظيم سياسي واسع وقائم على أسس متينة شاملة على غرار حزب المؤتمر الهندي ينهض بالحركة السياسية من خلال “الوحدة التنظيمية التي تحترم الاختلافات الفكرية” في هذه المرحلة التي نخر الانشقاق جسدها وأجهز على قواها، وأوصلها إلى هذا الوضع المأساوي.
نعم، عندما لايتحدث أحد عن ضرورة الوحدة التنظيمية للعديد من الأحزاب المتقاربة سياسياً وتركيبةً اجتماعية، يجب طرح هذه الضرورة على بساط النقاش في هكذا مؤتمر مفترض فيه وضع الاصبع على الجرح النازف في جسد الحركة.

ولكن كيف يمكن تحقيق مشروع كبير، دون مساهمة تامة لجميع فصائل هذه الحركة، دون استثناءات، في أهم مؤتمراتها؟
أنا شخصياً غير متفق في كثير من سياسات “حزب الاتحاد الديموقراطي” مثلاً، ولكنني لا أستطيع انكار حقه التام في حضور مؤتمرٍ كوردستاني سوري أو غير سوري… وهذا ينطبق على أحزابٍ أعتبرها مجرد أدوات تنفيذية لسياسات لا أقبل بها.

وأتذكر أن بعض الأحزاب جاءت إلى المؤتمر التأسيسي للمجلس الوطني الكوردستاني – سوريا في بلجيكا قبل أعوامٍ عديدة، ورفضت المساهمة في أعماله واختارت أن تبقى فيه كضيوف أو كمراقبين، وكان هذا أفضل بكثير من أن لاتحضر، فلربما ستشارك في مؤتمر آخر، وتستفيد من تجربتها الأولى في ذلك المجال.

وفي الحقيقة لم يجد أحد من مؤسسي المجلس آنذاك حرجاً في تلك الضيافة أو الرقابة.
وهذا النقص أيضاً في التعامل الكوردي العام أوالتشارك الجماعي الضروري، جانب من جوانب المأساة الكوردية بسبب الأحزاب ورداءة إدارتها للأزمة المستفحلة في حركتها، ولا بد من وضع حدٍ لسطوتها وارغامها على التوحد والاتحاد، لأن الأحزاب وسيلة يصل بها الشعب إلى أهدافه وليست هدفاً قائماً بنفسه لنفسه.
آمل أن لا أكون مجانباً الحقيقة… واستميحكم العذر إن كنت قد جنيت بكلامي هذا على أحد… فكل امرئ خطاء، وخير الخطائين التوابون.
22‏ كانون الثاني‏، 2012

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…