حسين جلبي
كلما دار الحديث عن الشعب الكُردي، فإن أول ما يقفز إلى الذهن هو تعداده السكاني، نذكره كمدخل للقول بأحقيته في أن تكون له دولة تجمعه، فنقول في معرض جولتنا التعريفية على أجزاء كردستان الأربعة: هناك عشرين مليون كردي في تركيا.
و لكن هل تصلح هذه الأرقام الغير رسمية، والتي قد تكون أكبر من ذلك بكثير، عنواناً للمفاخرة، أم هي سببٌ لجعل المرء يشعر بالحنق و الخجل من قومٍ لم تحرك فيهم نوائب الدهر و فرصه الذهبية الحديثة، علاوة على تعدادهم، أي نزوعٍ لتحركٍ جاد و عقلاني، نحو تحقيق ذاتهم من خلال واحدٍ من الأشكال القانونية المعروفة، التي أبسطها الحكم الذاتي، سواءٌ أكان ذلك داخل حدود الدولة التركية أو بجوارها.
و لكن هل تصلح هذه الأرقام الغير رسمية، والتي قد تكون أكبر من ذلك بكثير، عنواناً للمفاخرة، أم هي سببٌ لجعل المرء يشعر بالحنق و الخجل من قومٍ لم تحرك فيهم نوائب الدهر و فرصه الذهبية الحديثة، علاوة على تعدادهم، أي نزوعٍ لتحركٍ جاد و عقلاني، نحو تحقيق ذاتهم من خلال واحدٍ من الأشكال القانونية المعروفة، التي أبسطها الحكم الذاتي، سواءٌ أكان ذلك داخل حدود الدولة التركية أو بجوارها.
هل هو فشل؟ ربما لا، لأنه لم تكن هناك محاولة كاملة أصلاً، إذ لو كانت مثل هذه المحاولة، لو كان النهوض جماعياً، لما إستطاعت أعتى القوى الوقوف في وجه سيلٍ جارفٍ هادر يتكون من ملايين البشر، إذاً المسألة تتعلق بالإستسلام لمُغريات الكسل، و إختيار الهدوء إيثاراً للسلامة، والإنغماس في هوامش عجلة الإقتصاد التركي الذي يدر عليهم الليرات، التي تغسل الألسنة و تغير مذاقها.
يشبه طرحنا للمسألة الكردية في تركيا الحديث عن طفل مُدلل مُصابٍ بالتخمة، لم يستغني رغم إكتمال نموه عن زجاجة الحليب التركية، لا بل حسم خياراته بأن يبقى يتلقى هذه الزجاجة و إلى الأبد.
و في الحقيقة يعتبر الكرد في تركيا نموذجاً حياً للإنحلال القومي والإنصهار الثقافي وضياع الهوية و الإستسلام، إذ إكتسحت اللغة التركية كردستان من أقصاها إلى أقصاها، لا بل إمتدت هذه اللغة الى المهاجر حيث يتكلم بها الكرد القادمين من تركيا برضاهم التام، و بسعادة، هذا إذا إعتبرنا أن الموجودين في الوطن مجبرين على التحدث بها، و يستثنى من هذه القاعدة بعض الإستثناءات التي لا تشكل للأسف شيئاً، فهي غير موجودة على أرض الواقع، فقط عبارة عن مواقع نت، صحف، أو تلفزيون، لا يلتفت إليها إلا بعض الذين يعتاشون من وراءها.
الخارطة الحالية لكرد تركيا هي على الشكل التالي: فبالإضافة إلى الصورة السابقة لملايين الناس الذين أدارو ظهورهم للماضي، و إتجهوا إلى قبلتهم الجديدة في إسطنبول، هناك كتلة برلمانية كردية إسماً، لكن ليس لها برنامج واضح يخدم القضية القومية الكردية، فهي لا تحمل حتى أسماً كردياً، و وجودها مرتبط فقط بضرورة تواجد أناس يمثلون أبناء المنطقة في البرلمان التركي، وهناك حزبٌ مُسلح تجاوزه الزمن، و إستهلك نفسه و شعاراته، و لم يعد ينفع حتى كأداة تهويل، اللهم سوى ضد أبناء المنطقة، فقد كان يتواجد في وقتٍ ما في بعض المناطق الكردية، لكنه أصبح يعيش الآن معزولاً و بعيداً عنها بآلاف الكيلومترات، و ذلك في أحد الجبال النائية خارج الحدود التركية، و بعد أن كان يحمل شعاراً فضفاضاً يقوم على تحرير و توحيد كردستان، أصبحت كل قضيته تقتصر على تحرير قائده الأسير.
و لعل أبلغ الأدلة على قصر حيلة هذا الحزب و بالتالي الكرد في تركيا، هو ما حدث منذ أيامٍ قليلة، حين قام الطيران التركي بقصف قافلة، و قتل أربعين من أفرادها، تبين فيما بعد بأنهم مجموعة من أبناء المنطقة الذين يعملون في أعمال التهريب عبر الحدود، و هكذا إنقلبت الآية، فبدلاً من إستجابة الحزب الكردي للعملية التركية بالطريقة المنتظرة، و الدفاع عن هؤلاء، وهو الذي يتحمل على الأقل المسؤولية الأخلاقية عن مقتلهم، لكونه حصل على خلفية الإشتباه بكون القافلة تعود لمقاتليه، بدل ذلك، راح هو يدعو أهالي الضحايا للقيام بإنتفاضة، إنتفاضة المهربين… لكن العملية التركية كشفت الوجه الآخر المؤسف للمشكلة، فعلاوة على عدم الإستجابة لدعوة الإنتفاض، و النهاية المتوقعة للمشكلة كلها، حين سيدخل أهالي الضحايا في مزادٍ مع الحكومة التركية على أرواح أبناءهم، وصولاً إلى قبض مبالغ ضخمة من التعويضات، تنسيهم كل شئ، يتساءل المرء عن مستوى الإهانة الذي وصل إليه هذا العدد الكبير من البشر، الذين إرتضوا لأنفسهم العمل في وطنهم في أحط الأعمال، و الذي أحدها التهريب عبر الحدود على ظهر البغال، و هو كغيره ليس من الأعمال التي يمكن للمرء أن يفتخر بها في القرن الواحد و العشرين.
الطامة الكبرى هي أن هؤلاء الذين عجزوا عن حماية أنفسهم، و توفير سبل العيش الكريم لأهاليهم، ولم يحققوا شيئاً على أرض الواقع، يقلبون الآية و يعرضون الحماية على شعبٍ آخر حي لا يحتاجها، و هو الشعب الكردي في سوريا، الذي يتنفس السياسة، بعقله و ليس بمخالبه، و الذي لم ينقطع حراكه السلمي في أقسى الظروف، و الذي يتحرك الآن أيضاً، في هذ الوقت الذي بلغ فيها النظام مرحلة التوحش، و لا نبالغ إذا قلنا أن نضاله يكاد يثمر، و نيله لحقوقه القومية كاملةٍ، التي لم يعد عليها أي خلاف، هي مسألة وقت ليس أكثر، و هي قاب قوسين أو أدنى.
بالطبع لن يقرأ كلماتي بقايا الكُرد في تركيا، ليس لأنهم لا يقرؤون العربية فحسب، بل لأن القضية القومية أصبحت خلف ظهورهم، فحتى من كان ينشط لأجلها أزالها من برنامجه، و يلهث اليوم وراء هدف ضبابي لا يفقه أحد منه شيئاً.
الشئ الثابت هو أن من لم يحرك فيه قصف الطيران شيئاً، لن يحرك فيه مقالٌ عابر أي شئ، اللهم إلا عاصفة من الشتائم والتخوين، ليس بحق القتلة، بل بحق كاتب المقال، و ليس من المعنيين بالمقال، بل من المعتاشين على ظهورهم.
يشبه طرحنا للمسألة الكردية في تركيا الحديث عن طفل مُدلل مُصابٍ بالتخمة، لم يستغني رغم إكتمال نموه عن زجاجة الحليب التركية، لا بل حسم خياراته بأن يبقى يتلقى هذه الزجاجة و إلى الأبد.
و في الحقيقة يعتبر الكرد في تركيا نموذجاً حياً للإنحلال القومي والإنصهار الثقافي وضياع الهوية و الإستسلام، إذ إكتسحت اللغة التركية كردستان من أقصاها إلى أقصاها، لا بل إمتدت هذه اللغة الى المهاجر حيث يتكلم بها الكرد القادمين من تركيا برضاهم التام، و بسعادة، هذا إذا إعتبرنا أن الموجودين في الوطن مجبرين على التحدث بها، و يستثنى من هذه القاعدة بعض الإستثناءات التي لا تشكل للأسف شيئاً، فهي غير موجودة على أرض الواقع، فقط عبارة عن مواقع نت، صحف، أو تلفزيون، لا يلتفت إليها إلا بعض الذين يعتاشون من وراءها.
الخارطة الحالية لكرد تركيا هي على الشكل التالي: فبالإضافة إلى الصورة السابقة لملايين الناس الذين أدارو ظهورهم للماضي، و إتجهوا إلى قبلتهم الجديدة في إسطنبول، هناك كتلة برلمانية كردية إسماً، لكن ليس لها برنامج واضح يخدم القضية القومية الكردية، فهي لا تحمل حتى أسماً كردياً، و وجودها مرتبط فقط بضرورة تواجد أناس يمثلون أبناء المنطقة في البرلمان التركي، وهناك حزبٌ مُسلح تجاوزه الزمن، و إستهلك نفسه و شعاراته، و لم يعد ينفع حتى كأداة تهويل، اللهم سوى ضد أبناء المنطقة، فقد كان يتواجد في وقتٍ ما في بعض المناطق الكردية، لكنه أصبح يعيش الآن معزولاً و بعيداً عنها بآلاف الكيلومترات، و ذلك في أحد الجبال النائية خارج الحدود التركية، و بعد أن كان يحمل شعاراً فضفاضاً يقوم على تحرير و توحيد كردستان، أصبحت كل قضيته تقتصر على تحرير قائده الأسير.
و لعل أبلغ الأدلة على قصر حيلة هذا الحزب و بالتالي الكرد في تركيا، هو ما حدث منذ أيامٍ قليلة، حين قام الطيران التركي بقصف قافلة، و قتل أربعين من أفرادها، تبين فيما بعد بأنهم مجموعة من أبناء المنطقة الذين يعملون في أعمال التهريب عبر الحدود، و هكذا إنقلبت الآية، فبدلاً من إستجابة الحزب الكردي للعملية التركية بالطريقة المنتظرة، و الدفاع عن هؤلاء، وهو الذي يتحمل على الأقل المسؤولية الأخلاقية عن مقتلهم، لكونه حصل على خلفية الإشتباه بكون القافلة تعود لمقاتليه، بدل ذلك، راح هو يدعو أهالي الضحايا للقيام بإنتفاضة، إنتفاضة المهربين… لكن العملية التركية كشفت الوجه الآخر المؤسف للمشكلة، فعلاوة على عدم الإستجابة لدعوة الإنتفاض، و النهاية المتوقعة للمشكلة كلها، حين سيدخل أهالي الضحايا في مزادٍ مع الحكومة التركية على أرواح أبناءهم، وصولاً إلى قبض مبالغ ضخمة من التعويضات، تنسيهم كل شئ، يتساءل المرء عن مستوى الإهانة الذي وصل إليه هذا العدد الكبير من البشر، الذين إرتضوا لأنفسهم العمل في وطنهم في أحط الأعمال، و الذي أحدها التهريب عبر الحدود على ظهر البغال، و هو كغيره ليس من الأعمال التي يمكن للمرء أن يفتخر بها في القرن الواحد و العشرين.
الطامة الكبرى هي أن هؤلاء الذين عجزوا عن حماية أنفسهم، و توفير سبل العيش الكريم لأهاليهم، ولم يحققوا شيئاً على أرض الواقع، يقلبون الآية و يعرضون الحماية على شعبٍ آخر حي لا يحتاجها، و هو الشعب الكردي في سوريا، الذي يتنفس السياسة، بعقله و ليس بمخالبه، و الذي لم ينقطع حراكه السلمي في أقسى الظروف، و الذي يتحرك الآن أيضاً، في هذ الوقت الذي بلغ فيها النظام مرحلة التوحش، و لا نبالغ إذا قلنا أن نضاله يكاد يثمر، و نيله لحقوقه القومية كاملةٍ، التي لم يعد عليها أي خلاف، هي مسألة وقت ليس أكثر، و هي قاب قوسين أو أدنى.
بالطبع لن يقرأ كلماتي بقايا الكُرد في تركيا، ليس لأنهم لا يقرؤون العربية فحسب، بل لأن القضية القومية أصبحت خلف ظهورهم، فحتى من كان ينشط لأجلها أزالها من برنامجه، و يلهث اليوم وراء هدف ضبابي لا يفقه أحد منه شيئاً.
الشئ الثابت هو أن من لم يحرك فيه قصف الطيران شيئاً، لن يحرك فيه مقالٌ عابر أي شئ، اللهم إلا عاصفة من الشتائم والتخوين، ليس بحق القتلة، بل بحق كاتب المقال، و ليس من المعنيين بالمقال، بل من المعتاشين على ظهورهم.