صالح بوزان
منذ بداية الثورة السورية كتبت أن الهدف الجوهري للثورة السورية, هو ليس تغيير النظام البعثي فحسب.
بل تكمن عظمتها بأنها تريد أن تكنس كل السياسات الكلاسيكية وزعمائها الذين ينتمون للقرن العشرين.
ولهذا نجد المعارضة السورية بكل أطيافها لم تستطع التقارب مع هذه الثورة كاملة, وتعددت تشكيلاتها وآراؤها.
لأن معظم أفراد هذه المعارضات تحمل جزءاً من عقلية السلطة من حيث نزعة الوصاية والتحدث بلغة الحاكم قبل أن يحكم.
بينما في الأرض يقدم الشعب الشهداء في سبيل إزاحة كابوس الاستبداد قبل كل شيء.
وهذا هو السبب الجوهري بأن هذه الثورة تمر بمخاض عسير وطويل, وتنزف من خلال هذا النفق نهراً من الدماء.
فهي لا تواجه النظام السوري فقط, بل هي تخوض حرباً إقليمية وعالمية.
بل تكمن عظمتها بأنها تريد أن تكنس كل السياسات الكلاسيكية وزعمائها الذين ينتمون للقرن العشرين.
ولهذا نجد المعارضة السورية بكل أطيافها لم تستطع التقارب مع هذه الثورة كاملة, وتعددت تشكيلاتها وآراؤها.
لأن معظم أفراد هذه المعارضات تحمل جزءاً من عقلية السلطة من حيث نزعة الوصاية والتحدث بلغة الحاكم قبل أن يحكم.
بينما في الأرض يقدم الشعب الشهداء في سبيل إزاحة كابوس الاستبداد قبل كل شيء.
وهذا هو السبب الجوهري بأن هذه الثورة تمر بمخاض عسير وطويل, وتنزف من خلال هذا النفق نهراً من الدماء.
فهي لا تواجه النظام السوري فقط, بل هي تخوض حرباً إقليمية وعالمية.
اغلب الحكام العرب في الشرق الأوسط يخشون من منطق هذه الثورة, لأنها حبلى بنمط من التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا مكان فيها للأحزاب والزعامات الكلاسيكية, ولا لسياسة الصفقات المريبة التي يتقنها أولائك الحكام والأحزاب تحت الطاولة.
إنها قبل كل شيء تعطي للشعب كلمة الفصل.
هناك في كل بلدن من بلدان الشرق شعبان.
شعب خيالي غير موجود إلا في ذهن الحاكم (والأحزاب الشمولية) يسلطه على الشعب الذي على الأرض.
ويجري صراع بين خيال الحاكم المستبد وبين الواقع الذي يتمرد عليه.
والثورة السورية في صراعها مع النظام تجسد هذه الحقيقة بكل تفاصيلها ومرارتها.
من هنا يجري التآمر عليها بشكل علني وسري ومن كل حدب وصوب.
فالنظام العراقي والإيراني وحزب لله يقفون ضدها ليس من المنطلق الطائفي فحسب, بل لأن هذان النظامان وهذا الحزب قد وضعوا كل إستراتيجيتهم على ضوء هذا الانفصال بين الحلم الخيالي وواقع الشعوب على أرض الواقع.
يخشى الطائفيون من كل المشارب من الثورة السورية, لأنها في حال نجاحها ستفضح هذه النزعة المقيتة عند الشيعة وتفرعاتها وعند السنة وتكويناتها.
ستقضي على نزعة التطرف القومي الذي أرهق شعوب الشرق.
هذه النزعة التي سعَرها بعض الحكام وبعض الأحزاب.
لا يعني هذا الكلام أن النظام السياسي القادم سيكون نظاماً مدنياَ وديمقراطياً وعلمانياً مائة بالمائة.
بل ما أقصده أن التيار الإسلامي السني الذي يخشى منه البعض، وجعلوه فزاعة لتخويف المسيحيين والعلويين والأكراد منه لن يكون إلا منفتحاً على جميع التيارات الأخرى بما في ذلك على التيار العلماني.
لو عدنا إلى تاريخ سوريا قبل استلام حزب البعث للسلطة نجد أن إخوان المسلمين لم يكونوا طائفيين بمعنى الطائفية المتداولة اليوم.
كان الصراع بينهم وبين اليسار السوري بما في ذلك مع الشيوعيين صراعاً بين التقدم والرجعية حسب المصطلحات التي كانت متداولة حينئذ.
وكان الحزب الشيوعي السوري على هذا الأساس يتصارع مع الإخوان المسلمين وهم كذلك.
لقد قلت كل هذه المقدمة لكي أبين حيرتي من السلوك السياسي والمواقف المعلنة وغير المعلنة لبعض الزعماء الأكراد في كل من سوريا والعراق وتركيا تجاه الثورة السورية.
فلو أزحنا القشور الدبلوماسية عن تصريحاتهم نجدهم يتسابقون في تخويف الشعب الكردي السوري من نتائج الثورة.
أحياناً يتنكرون أن ما يجري في سوريا ثورة.
وأحياناً يظهرون نوعاً من العنصرية المقيتة ضد العرب بحجة أنهم لم يقفوا مع الأكراد في انتفاضتهم عام 2004, وأحياناً أخرى يخوفون الأكراد من الفوضى والحرب الطائفية, وبعضهم يخوفونهم من تركيا.
لقد عانى الشعب الكردي السوري الأمرين من النظام البعثي منذ عام 1963.
فهذا النظام هو الذي كرّس إحصاء 1962, وقام بفرض حزام عربي على الحدود السورية مع العراق وتركيا في الجزيرة السورية لإبعاد الكرد عن بعضهم بعضاً على طرفي الحدود.
وفي السبعينيات نقل ما سمي بعرب الغمر في الرقة إلى المناطق الكردية في محافظة الحسكة, وبنى لهم قرى نموذجية.
غيّر أسماء غالبية القرى الكردية, ومنع الولادات الكردية بأن يحملوا أسماء كردية.
عمل النظام البعثي المستحيل لتعريب الأكراد واجتثاث الثقافة الكردية من ذاكرتهم.
كان يمنع أي كتاب يُذكر فيه شيء عن أكراد سوريا وتاريخهم وثقافتهم.*
في عام 2004 قامت الانتفاضة الكردية التي جاءت رداً على الموقف الشوفيني البعثي الذي اتهم زعماء الأكراد في العراق بالعمالة للمحتل الأميركي, وذهب أكثر من ثلاثين شاباً كردياً ضحية تلك الانتفاضة.
وقد وظّف النظام بعض عرب الدير الزور والحسكة للقيام بهذه المهمة, لكونهم كانوا تاريخياً يتضامنون مع صدام حسين ومع بعض العشائر العراقية السنية التي هم جزء منها تاريخياً.
وبعد ذلك جاء مقتل المناضل الكبير الشيخ معشوق الغزنوي تحت التعذيب في أقبية الأمن السوري.
وكان ملفتاً للانتباه أن الأمن السوري رمى جثته في دير الزور للإيحاء بأن الديريين هم الذين قتلوه انتقاماً لصدام حسين, بهدف تسعير التوتر بين العرب والكرد.
أريد القول أن زعماء الأكراد في سوريا والعراق وتركيا يعرفون هذه الحقائق كاملة.
بل ربما يعرفون أكثر من ذلك بحكم علاقاتهم مع النظام السوري تاريخياً.
وجاءت الثورة السوري لتحمل مفاهيم جديدة منذ اليوم الأول.
وكان في مقدمة هذه المفاهيم الأخوة الكردية العربية.
لقد انتفض كل السورين في جمعة آزادي, وكتبوا الكثير من الشعارات باللغة الكردية, هذه اللغة التي حرص النظام بكل الوسائل من أجل أن ينساها الشعب الكردي السوري.
وعندما استشهد مشعل تمو قامت قيامة السوريين.
وكان من بين الثوار أهل دير الزور الذين حملوا صور مشعل تمو وصرخوا “بالروح وبالدم نفديك يا شهيد” هؤلاء الديريين الذي في عام 2004 اقتحم بعضهم شوارع قامشلي ليهينوا الأكراد وزعماءهم.
هذه هي بوادر قيم الثورة السورية التي تخرج إلى ساحة الوطن بوطنية لا مكان فيها للشوفينية والتعصب القومي.
من الحقائق البارزة أن كل الأحزاب الكردية وكل الزعماء الكرد, رغم كل محاولاتهم الصادقة لتجسيد شعار الأخوة الكردية العربية في الواقع السوري لم يحققوا أي نجاح.
طبعاً ليس الذنب ذنبهم فقط.
لكن النتيجة كانت زيادة التشنج العربي ضد الكرد.
وفي تركيا الحديثة لم تقم مظاهرة واحدة للجماهير التركية تضامناً مع الشعب الكردي هناك, رغم الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها التركية الكمالية ضد الكرد.
وفي العراق يتآمر زعماء الشيعة والسنة ضد الحقوق الكردية في كركوك وفي المناطق التي اجتثها صدام حسين من جسم كردستان العراق.
أليس من المنطقي والموضوعي أن يكون الكردد في كل مكان مع هذه الثورة السورية العظيمة التي تفتح المجال ولأول مرة في التاريخ العربي- الكردي لوضع أسس أكثر عقلانية للتعايش مع بعضهم بعضاً في إطار وطن واحد وتحت سقف العدل والمساواة بين القوميات والطوائف؟
منذ أيام خرج أهل باب الهود في حمص وهم يحملون لافتات باللغة الكردية.
من كان يتوقع أن يأتي يوم ينظر العرب السوريون بهذه الأخوة الحميمية للأكراد؟ قال لي صديق بأنه التقى بعد مقتل مشعل تمو برجل عجوز من حريتان في ريف حلب.
قال له هذا الرجل العجوز لقد قرر شباب حريتان أن يخرجوا بمظاهرة تنديداً بمقتل مشعل تمو.
قال لقد خرجت أيضاً مع الشباب في المظاهرة, أنا العميد المتقاعد في الجيش العربي السوري حملت صورة مشعل تمو وسرت مع المتظاهرين.
قامت طالبة في ثانوية الغوطة بداريا بتعليق صورة كل من مشعل تمو وغياث مطر فوق صورة بشار الأسد في صفها الدراسي تحت دهشة المدير والموجهين والأساتذة.
منذ فترة قادت طالبة كردية من عفرين تدرس في جامعة حمص بقيادة مظاهرة نسائية هناك, وكانت نساء حمص البطلات يرددن الهتافات من ورائها.
هذه هي بوادر قيم الثورة السورية.
فكيف بالإمكان أن تؤدي هذه الثورة العظيمة إلى مجيء متطرفين وأصوليين وقوميين شوفينيين إلى الحكم أيها العلمانييون الذين حولتم أحزابكم إلى طابور من العبيد يسبًحون بحمدكم ليلاً ونهاراً.
إن الاعتراف من خلال الوثاق الرسمية بحقوق الشعب الكردي مهم جداً.
ولكن من قال أن هذا الاعتراف كافياً.
لقد اعترف صدام حسين رسمياً بالشعب الكردي.
وأقر ذلك في الدستور العراقي, لكنه ارتكب أفظع الجرائم ضد الشعب الكردي بعد ذلك.
إن عقيدة البعث واحدة سواء في العراق أو في سوريا.
وما نشاهد من فظائع القتل الجماعي في حمص وجبل الزاوية وحماه ودرعا خير دليل على ذلك.
هناك بعض الزعماء الكرد يثيرون نوعاً من الشعور القومي لا يختلف عن المفاهيم القومية لحزب البعث, عندما يقولون أن من يعطي حقوق الشعب الكردي السوري سنتعامل معه.
إن الحقوق التي تأتي من نظام استبدادي هي حقوق باطلة ولو أدت إلى تشكيل إمارة كردية في سوريا.
فليس الشعب الكردي السوري هو الذي يبني حقوقه على دماء شهداء شريكه العربي في الوطن والتاريخ والمصير.
فبئس حقوق تبنى على أجساد ودماء شهداء هذه الثورة الخالدة.
الشعب الكردي السوري شعب وطني, وله دور مجيد في تاريخ سوريا الحديثة.
وإذا كان القادة السياسيون السوريون الكلاسيكيون تجاهلوا حقوقه طيلة هذه التاريخ, فلقد برز جيل جديد من العرب سيدافعون عن حقوق هذا الشعب في إطار سوريا الموحدة كجز من حقوق الشعب السوري برمته.
وهذا ليس حلم بل هو الواقع القادم بكل تأكيد.
لقد ربطت الثورة السورية المجيدة مصير الشعب الكردي السوري بمصير الشعب العربي.
وهذا شرف عظيم للكرد.
وسيبقون مخلصين لتوجهات شهدائهم, ولا سيما الشهيد شيخ معشوق الخزنوي والشهيد مشعل تمو في وحدة المصير لكل مكونات الشعب السوري من قوميات وديانات وطوائف.
إن الحقيقة الساطعة التي نستخلصها من التاريخ الكري الحديث هي أن لا مكان لحقوقهم القومية بدون الديمقراطية.
ومن يسعى من الكرد إلى صفقات سرية سينقلب الشعب الكردي عليه قبل العربي.
لأن الجيل الكردي الذي انتظم في تنسيقياته يفهم طبيعة العصر والتغيرات في بنية العالم المعاصر أكثر من أولئك الزعماء الذين مازالوا رهائن صفقاتهم وتكتيكيات صراعاتهم الحزبية.
ـــــــــــــــــــــ
* في عام 2002 ترجمت مع زميلة كتاباً عن اللغة الروسية بعنوان”تاريخ كردستان” وعندما قدمناه إلى وزارة الإعلام في مرحلة ما سمي بربيع دمشق.
جاءنا رد الوزارة بعدم الموافقة.
ولما أعدت النظر في المخطوطة وجدت أن الرقيب قد وضع خطوطاً بقلم الرصاص على بعض الكلمات والجمل.
وعلى سبيل المثال وردت في الكتاب جملة تقول أنه عندما جاء العثمانيون إلى أسيا الصغرى في القرن الواحد والعشرين قاتلوا الأكراد في شمال سوريا وقتلوا منهم الكثير.
فلم تعجب هذه الجملة الرقيب البعثي لأنها تؤكد على قدم الوجود الكردي في شمال سوريا.
إنها قبل كل شيء تعطي للشعب كلمة الفصل.
هناك في كل بلدن من بلدان الشرق شعبان.
شعب خيالي غير موجود إلا في ذهن الحاكم (والأحزاب الشمولية) يسلطه على الشعب الذي على الأرض.
ويجري صراع بين خيال الحاكم المستبد وبين الواقع الذي يتمرد عليه.
والثورة السورية في صراعها مع النظام تجسد هذه الحقيقة بكل تفاصيلها ومرارتها.
من هنا يجري التآمر عليها بشكل علني وسري ومن كل حدب وصوب.
فالنظام العراقي والإيراني وحزب لله يقفون ضدها ليس من المنطلق الطائفي فحسب, بل لأن هذان النظامان وهذا الحزب قد وضعوا كل إستراتيجيتهم على ضوء هذا الانفصال بين الحلم الخيالي وواقع الشعوب على أرض الواقع.
يخشى الطائفيون من كل المشارب من الثورة السورية, لأنها في حال نجاحها ستفضح هذه النزعة المقيتة عند الشيعة وتفرعاتها وعند السنة وتكويناتها.
ستقضي على نزعة التطرف القومي الذي أرهق شعوب الشرق.
هذه النزعة التي سعَرها بعض الحكام وبعض الأحزاب.
لا يعني هذا الكلام أن النظام السياسي القادم سيكون نظاماً مدنياَ وديمقراطياً وعلمانياً مائة بالمائة.
بل ما أقصده أن التيار الإسلامي السني الذي يخشى منه البعض، وجعلوه فزاعة لتخويف المسيحيين والعلويين والأكراد منه لن يكون إلا منفتحاً على جميع التيارات الأخرى بما في ذلك على التيار العلماني.
لو عدنا إلى تاريخ سوريا قبل استلام حزب البعث للسلطة نجد أن إخوان المسلمين لم يكونوا طائفيين بمعنى الطائفية المتداولة اليوم.
كان الصراع بينهم وبين اليسار السوري بما في ذلك مع الشيوعيين صراعاً بين التقدم والرجعية حسب المصطلحات التي كانت متداولة حينئذ.
وكان الحزب الشيوعي السوري على هذا الأساس يتصارع مع الإخوان المسلمين وهم كذلك.
لقد قلت كل هذه المقدمة لكي أبين حيرتي من السلوك السياسي والمواقف المعلنة وغير المعلنة لبعض الزعماء الأكراد في كل من سوريا والعراق وتركيا تجاه الثورة السورية.
فلو أزحنا القشور الدبلوماسية عن تصريحاتهم نجدهم يتسابقون في تخويف الشعب الكردي السوري من نتائج الثورة.
أحياناً يتنكرون أن ما يجري في سوريا ثورة.
وأحياناً يظهرون نوعاً من العنصرية المقيتة ضد العرب بحجة أنهم لم يقفوا مع الأكراد في انتفاضتهم عام 2004, وأحياناً أخرى يخوفون الأكراد من الفوضى والحرب الطائفية, وبعضهم يخوفونهم من تركيا.
لقد عانى الشعب الكردي السوري الأمرين من النظام البعثي منذ عام 1963.
فهذا النظام هو الذي كرّس إحصاء 1962, وقام بفرض حزام عربي على الحدود السورية مع العراق وتركيا في الجزيرة السورية لإبعاد الكرد عن بعضهم بعضاً على طرفي الحدود.
وفي السبعينيات نقل ما سمي بعرب الغمر في الرقة إلى المناطق الكردية في محافظة الحسكة, وبنى لهم قرى نموذجية.
غيّر أسماء غالبية القرى الكردية, ومنع الولادات الكردية بأن يحملوا أسماء كردية.
عمل النظام البعثي المستحيل لتعريب الأكراد واجتثاث الثقافة الكردية من ذاكرتهم.
كان يمنع أي كتاب يُذكر فيه شيء عن أكراد سوريا وتاريخهم وثقافتهم.*
في عام 2004 قامت الانتفاضة الكردية التي جاءت رداً على الموقف الشوفيني البعثي الذي اتهم زعماء الأكراد في العراق بالعمالة للمحتل الأميركي, وذهب أكثر من ثلاثين شاباً كردياً ضحية تلك الانتفاضة.
وقد وظّف النظام بعض عرب الدير الزور والحسكة للقيام بهذه المهمة, لكونهم كانوا تاريخياً يتضامنون مع صدام حسين ومع بعض العشائر العراقية السنية التي هم جزء منها تاريخياً.
وبعد ذلك جاء مقتل المناضل الكبير الشيخ معشوق الغزنوي تحت التعذيب في أقبية الأمن السوري.
وكان ملفتاً للانتباه أن الأمن السوري رمى جثته في دير الزور للإيحاء بأن الديريين هم الذين قتلوه انتقاماً لصدام حسين, بهدف تسعير التوتر بين العرب والكرد.
أريد القول أن زعماء الأكراد في سوريا والعراق وتركيا يعرفون هذه الحقائق كاملة.
بل ربما يعرفون أكثر من ذلك بحكم علاقاتهم مع النظام السوري تاريخياً.
وجاءت الثورة السوري لتحمل مفاهيم جديدة منذ اليوم الأول.
وكان في مقدمة هذه المفاهيم الأخوة الكردية العربية.
لقد انتفض كل السورين في جمعة آزادي, وكتبوا الكثير من الشعارات باللغة الكردية, هذه اللغة التي حرص النظام بكل الوسائل من أجل أن ينساها الشعب الكردي السوري.
وعندما استشهد مشعل تمو قامت قيامة السوريين.
وكان من بين الثوار أهل دير الزور الذين حملوا صور مشعل تمو وصرخوا “بالروح وبالدم نفديك يا شهيد” هؤلاء الديريين الذي في عام 2004 اقتحم بعضهم شوارع قامشلي ليهينوا الأكراد وزعماءهم.
هذه هي بوادر قيم الثورة السورية التي تخرج إلى ساحة الوطن بوطنية لا مكان فيها للشوفينية والتعصب القومي.
من الحقائق البارزة أن كل الأحزاب الكردية وكل الزعماء الكرد, رغم كل محاولاتهم الصادقة لتجسيد شعار الأخوة الكردية العربية في الواقع السوري لم يحققوا أي نجاح.
طبعاً ليس الذنب ذنبهم فقط.
لكن النتيجة كانت زيادة التشنج العربي ضد الكرد.
وفي تركيا الحديثة لم تقم مظاهرة واحدة للجماهير التركية تضامناً مع الشعب الكردي هناك, رغم الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها التركية الكمالية ضد الكرد.
وفي العراق يتآمر زعماء الشيعة والسنة ضد الحقوق الكردية في كركوك وفي المناطق التي اجتثها صدام حسين من جسم كردستان العراق.
أليس من المنطقي والموضوعي أن يكون الكردد في كل مكان مع هذه الثورة السورية العظيمة التي تفتح المجال ولأول مرة في التاريخ العربي- الكردي لوضع أسس أكثر عقلانية للتعايش مع بعضهم بعضاً في إطار وطن واحد وتحت سقف العدل والمساواة بين القوميات والطوائف؟
منذ أيام خرج أهل باب الهود في حمص وهم يحملون لافتات باللغة الكردية.
من كان يتوقع أن يأتي يوم ينظر العرب السوريون بهذه الأخوة الحميمية للأكراد؟ قال لي صديق بأنه التقى بعد مقتل مشعل تمو برجل عجوز من حريتان في ريف حلب.
قال له هذا الرجل العجوز لقد قرر شباب حريتان أن يخرجوا بمظاهرة تنديداً بمقتل مشعل تمو.
قال لقد خرجت أيضاً مع الشباب في المظاهرة, أنا العميد المتقاعد في الجيش العربي السوري حملت صورة مشعل تمو وسرت مع المتظاهرين.
قامت طالبة في ثانوية الغوطة بداريا بتعليق صورة كل من مشعل تمو وغياث مطر فوق صورة بشار الأسد في صفها الدراسي تحت دهشة المدير والموجهين والأساتذة.
منذ فترة قادت طالبة كردية من عفرين تدرس في جامعة حمص بقيادة مظاهرة نسائية هناك, وكانت نساء حمص البطلات يرددن الهتافات من ورائها.
هذه هي بوادر قيم الثورة السورية.
فكيف بالإمكان أن تؤدي هذه الثورة العظيمة إلى مجيء متطرفين وأصوليين وقوميين شوفينيين إلى الحكم أيها العلمانييون الذين حولتم أحزابكم إلى طابور من العبيد يسبًحون بحمدكم ليلاً ونهاراً.
إن الاعتراف من خلال الوثاق الرسمية بحقوق الشعب الكردي مهم جداً.
ولكن من قال أن هذا الاعتراف كافياً.
لقد اعترف صدام حسين رسمياً بالشعب الكردي.
وأقر ذلك في الدستور العراقي, لكنه ارتكب أفظع الجرائم ضد الشعب الكردي بعد ذلك.
إن عقيدة البعث واحدة سواء في العراق أو في سوريا.
وما نشاهد من فظائع القتل الجماعي في حمص وجبل الزاوية وحماه ودرعا خير دليل على ذلك.
هناك بعض الزعماء الكرد يثيرون نوعاً من الشعور القومي لا يختلف عن المفاهيم القومية لحزب البعث, عندما يقولون أن من يعطي حقوق الشعب الكردي السوري سنتعامل معه.
إن الحقوق التي تأتي من نظام استبدادي هي حقوق باطلة ولو أدت إلى تشكيل إمارة كردية في سوريا.
فليس الشعب الكردي السوري هو الذي يبني حقوقه على دماء شهداء شريكه العربي في الوطن والتاريخ والمصير.
فبئس حقوق تبنى على أجساد ودماء شهداء هذه الثورة الخالدة.
الشعب الكردي السوري شعب وطني, وله دور مجيد في تاريخ سوريا الحديثة.
وإذا كان القادة السياسيون السوريون الكلاسيكيون تجاهلوا حقوقه طيلة هذه التاريخ, فلقد برز جيل جديد من العرب سيدافعون عن حقوق هذا الشعب في إطار سوريا الموحدة كجز من حقوق الشعب السوري برمته.
وهذا ليس حلم بل هو الواقع القادم بكل تأكيد.
لقد ربطت الثورة السورية المجيدة مصير الشعب الكردي السوري بمصير الشعب العربي.
وهذا شرف عظيم للكرد.
وسيبقون مخلصين لتوجهات شهدائهم, ولا سيما الشهيد شيخ معشوق الخزنوي والشهيد مشعل تمو في وحدة المصير لكل مكونات الشعب السوري من قوميات وديانات وطوائف.
إن الحقيقة الساطعة التي نستخلصها من التاريخ الكري الحديث هي أن لا مكان لحقوقهم القومية بدون الديمقراطية.
ومن يسعى من الكرد إلى صفقات سرية سينقلب الشعب الكردي عليه قبل العربي.
لأن الجيل الكردي الذي انتظم في تنسيقياته يفهم طبيعة العصر والتغيرات في بنية العالم المعاصر أكثر من أولئك الزعماء الذين مازالوا رهائن صفقاتهم وتكتيكيات صراعاتهم الحزبية.
ـــــــــــــــــــــ
* في عام 2002 ترجمت مع زميلة كتاباً عن اللغة الروسية بعنوان”تاريخ كردستان” وعندما قدمناه إلى وزارة الإعلام في مرحلة ما سمي بربيع دمشق.
جاءنا رد الوزارة بعدم الموافقة.
ولما أعدت النظر في المخطوطة وجدت أن الرقيب قد وضع خطوطاً بقلم الرصاص على بعض الكلمات والجمل.
وعلى سبيل المثال وردت في الكتاب جملة تقول أنه عندما جاء العثمانيون إلى أسيا الصغرى في القرن الواحد والعشرين قاتلوا الأكراد في شمال سوريا وقتلوا منهم الكثير.
فلم تعجب هذه الجملة الرقيب البعثي لأنها تؤكد على قدم الوجود الكردي في شمال سوريا.