مجنون يحكي…

حسين جلبي

ما يدور في سوريا في كثير من المستويات يتعدى الجنون بمراحل، إنه خليط من مجموعة من الأمراض النفسية المزمنة، التي ساهم الكبت الطويل في إخفائها تحت السطح، و لكنها وجدت لنفسها مع الربيع العربي منافذ للتعبير، ليس على شكل نسائم رقيقة تميز الربيع، بل على شكل أعاصير من الهلوسة.

لقد كشف الربيع السوري الغطاء و أسقط الأقنعة عن كثير من الوجوه، التي ساهمت المساحيق السميكة، و آلة الدعاية النشيطة في رفع بعضها إلى أعلى المراتب، لقد سقطت في أول إمتحان عندما إنتفت إمكانية الغش و الإحتيال، و ظهرت عارية من كل شئ اللهم إلا من أوراق الغش التي أخفت خلفها طويلاً، عورتها.
إن مقارنة بسيطة بين لقائين تلفزيونيين لبشار الأسد، أحدهما مع تلفزيونه و الآخر مع محطة أي بي سي الأمريكية، يكشف الفارق ـ الفضيحة، كالفارق بين أن يكون المرء أسدٌ على أهله المسالمين، و بين أن يكون في حروبه مع الغير نعامةٌ، فلقد سبق للأسد أن ظهر في لقاءه مع أهل داره بكامل مساحيقه، يجيب عن الأسئلة المسربة إليه بكل إتقانٍ و إقتدار غير ناسٍ الفواصل و النقاط، في حين ظهر في لقاءه الأمريكي، الذي كان يحسبه حفرةً حفرها لغيره، ظهر و قد يسقط منذ أول لحظة إنطلق به فيها الحصان الجامح، و من كان يسمعه و هو يدفع عن نفسه التهم، و ينفي معرفته بالوقائع، و ينكر توقيعه عليها، بإطلاق الـ (نو نو نو) رشاً، و بالثلاثة، لعرف مقدار المأزق الذي أوقع نفسه فيه، أو جناه أهلوه عليه، و كأنه ما يزال طالبٌ في الصفوف الأولى، تلقى أسئلة تصلح للمدارس العليا، مع أن الأسئلة كانت من البساطة بمكان، بحيث يستطيع أن يجيب عنها أياً كان و بسهولة، شرط توافر الصدق مع الذات، و هو ما لم يعتده الأسد، و نظامه، الذي يبدو أن حياته الدراسية كانت كلها رحلة دلع من الممتحنين، كونه إبن المعلم.
حالة غش أخرى بارزة تنتمي هي الأخرى إلى هذا النوع من الجنون، كانت حديث العالم خلال الأيام القليلة الماضية، حيث ظهر وليد المعلم في مؤتمر (صحّافي) و هو يشكو ـ و يا ريته لم يفعل، و ترك الفضائيات في غفلةٍ من أمرها ـ يشكو قطع الفضائيات المغرضة للصور و الأدلة الدامغة التي بثها، هذه الصور التي خدمت كل شئ إلا رواية النظام، ثم جرت لها كالعادة عمليات ترقيع غير مجدية، ليست كالأولى، أي قبل و بعد، و لكنه ـ أي الترقيع ـ لم يخفي ترهلات المعلم، بل سلط المزيد من الأضواء على ما حاول إخفائه.
لكن هذه الهستريا التي تصبغ سلوك النظام لا تقف عند الجبهة التي تخصه فحسب، فعلى الطرف المقابل تصدر كذلك كثيرٌ من الإشارات و الحركات و الكلمات الغير سوية أيضاً، و هي تشبه حالة إنسان كان يعيش وسط العواصف، كان يرى و يسمع و لكنه لا يتكلم، و فجأة إنطلق لسانه، فراح نتيجة تراكم الأحداث التي مرت عليه من جهة، و نتيجة إحساسه بضغط الوقت من جهةٍ أخرى، راح يحاول أن يقول كل شئ دفعةً واحدة، فيقذف كل ما تجمع في داخله من خيرٍ و شر في ذات الوقت، بشكلٍ حاد يفتقر أحياناً إلى الحد الأدنى من المعقولية و المنطق، و هو ما تزخر ببعضه صفحات النت.
إن ما يجري في سوريا هذه الأيام يقدم النظام بأوضح صوره، و يختصر رحلته الطويلة خلال العقود الماضية، فهو إذ يقتل الشعب السوري بدمٍ باردٍ بيد، ينظم بيده الأخرى مهزلة يسميها إنتخابات، ليست معروفة النتائج فحسب، بل هي أبعد ما تكون عن مفاهيم الإنتخاب، و أقرب إلى جريمة الإغتصاب المستمرة التي بدأها النظام بجريمة الإستيلاء على الحكم، و هي كهذه و ما بينهما، يمارسها جميعاً على رؤوس الأشهاد، لدرجة يتخيل معها المرء أنها أصبحت بحكم العادة، مشروعة.
لقد بلغت أمراض النظام المستعصية درجةً يصعب العلاج منها، فشرعنته للقتل لا يفيد معه إصلاح التشريعات و المحاسبة على أساس كمية الدم المُراق، و المواضع التي أريق فيها، لا يفيد معه سوى الشطب على هذه السلوكيات الهمجية من خلال إستئصال الفكر الذي يقف خلفها، و جلب المجرم إلى العدالة التي أجمعت عليها البشرية من خلال الإتفاقات و العهود الدولية لحقوق الإنسان، و هي التي ستقرر في المحصلة إرسال المجرم إلى ما وراء القضبان، أو إلى المصحات النفسية.

لا زال النظام السوري بعد تسعة أشهر من الثورة السورية يتوقع الحصول على نتيجة مختلفة، مع أنه يمارس الجريمة ذاتها كل يوم و في كل مكان، أليس في هذا الأمر غباء أكثر مما فيه من جنون، خاصةً مع تآكل النظام و تلاشي نفوذه مع مرور الوقت.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…