لا شيء يشبه “فضيحة كولن باول” وهو يعرض أمام مجلس الأمن، الأدلة والبراهين الزائفة على تملّك العراق لأسلحة دمار شامل عشية الحرب على العراق، إلا “الفضيحة” التي قارفها وزير الخارجية السورية “الرزين” وليد المعلم، أمس الأول، وهو يعرض أمام الصحفيين في دمشق، أفلاماً “مفبركة” عن جرائم عصابات القتلة والسلفيين في حمص وجوارها، فإذا بها “أفلاماً” منسوخة عن جريمة شنق عامل مصري في بلدة كترمايا، ووقائع من اشتباكات بين درب التبانة وبعل محسن، شمالي لبنان.
هي إشارة دالة على إفلاس النظام السياسي، فالإفلاس الإعلامي البالغ حد التزييف والتزوير، غير المحترف، وغير المراعي لذاكرة الناس الطازجة، ينهض دليلاً على خطورة هذا الإفلاس وخواء المستوى السياسي السوري من أي مبادرة أو رؤية للخروج من المأزق، أو حتى التصدي لما يسميه “مؤامرة خارجية”، تستهدف سوريا في “مقاومتها وممانعتها” كما قال المعلم في مؤتمره الصحفي المذكور.
والحقيقة أن هذا النمط من الكذب والتدليس، ليس طارئاً على الخطاب السياسي والإعلامي السوري…لقد استمعنا إلى قصص مروّعة من شهود عيان خلال الأشهر الفائتة، عن جرائم قارفتها أجهزة النظام و”شبيحته” نسبت كذباً وتحريضاً “للعصابات الإجرامية والإرهابية المسلحة”…فكل ما كان يتطلبه الأمر، استدعاء كاميرات التلفزة التابعة للنظام على عجل، وتصوير آثار الجريمة المرتسمة على الجثث المُمَثل بها، واستنطاق من حضر من “شهود عيان” وبث الأخبار والتقارير، كاتب هذه السطور استمع شخصياً لأكثر من قصة في غير موقع ومن أكثر من مصدر، تلتقي جميعها حول نفس المضمون.
لا نريد أن نبرئ بعض الجهات المذهبية المتطرفة من مقارفة جرائم من النوع الذي أشار إليه المعلم…ولا أن نعفي من المسؤولية، ألوف المجرمين الفارين من وجه العدالة واللائذين بحالة الفوضى والفلتان التي تعم سوريا هذه الأيام…ولكننا في الوقت نفسه، نشعر بالدهشة حيال استمرار “حالة الإنكار” التي يعيشها النظام، حتى انطبق على بعض أركانه المثل القائل :”كذوبوا الكذبة وصدّقوها”.
كان الله في عون الشعب السوري الشقيق، فهو من جهة أولى، يرزح تحت نير نظام لا يرحم، ولن يتورع عن مقارفة أبشع الجرائم لضمان بقائه في السلطة، وهو الذي يخوض آخر معاركه، معركة الحياة والموت…وهو من جهة ثانية، يواجه “خليطاً من المعارضات”، بعضها أسوأ من النظام نفسه وأشد قسوة و”شمولية” منه، وبعضها الثاني ضالع في بيزنيس “المعارضة” وشديد الارتباط بأجندات استخبارية وإقليمية ودولية…وهو – الشعب السوري – من جهة ثالثة، يواجه جامعة عربية أمكن اختطافها في غفلة من دول الربيع العربي، من قبل حفنة من الدول العربية المتقدرة سياسياً ومالياً، المهجوسة بتصفية جميع الحسابات مع نظام دمشق، اللهم باستنثاء حسابات الإصلاح ومقتضيات التغيير الديمقراطي في سوريا….أما المعارضة الوطنية الديمقراطية في الداخل والخارج، فهي تجاهد في سبيل أن تنأى بنفسها وبسوريا عن هذه “الشراك” و”التداخلات”، ومستقبل سوريا برمته، شعبا وكياناً، معقود على قدرة هذه المعارضة على مواصلة السير في حقول الألغام هذه.
وحمى الله شعب سوريا من بعض أصدقائه من المناضلين اليساريين والقوميين والإسلاميين العرب، الذين قارفوا من “الفضائح” ما لا يقل بؤساً عن “فضيحة المعلم”…بعض هؤلاء ما انفك يهتف لـ”المقاومة والممانعة” ويمجد “حنكة” النظام و”حكمته” كما قرأنا في يافطات واعتصامات يسارية وقومية، برغم وصول صحيات القتلى وأنات الجرحى إلى مسامعهم مباشرة وليس عبر وسائط الإعلام فحسب…وبعضهم الآخر، من الإسلاميين (المقاومين) انقلب على كل ما قال وكتب و”نظّر” طوال سنوات عن “المقاومة والممانعة”، وقلب ظهر المجن لكل حلفاء الأمس ومجاهديه، منبرياً للدفاع حتى عمّن تبقى من نظم الفساد والاستبداد في المنطقة، لا لشيء إلا لأنها تستعجل سقوط النظام، وهم – أي الإسلاميين المقاومين – يستعجلون وصول “جماعتهم” للحكم في دمشق، مهما بلغ الثمن، وعن أي طريق كان، وبالتحالف مع كل شياطين الأرض، الكبار منهم والصغار.
إنها الانتهازية إذ تأخذ شكل “الفضيحة” العابرة للأحزاب والإيديولوجيات والفصائل، وتطل برأسها من بين ثنايا وتعقديات المشهد السوري…إنه الاختبار المرير لـ”ديمقراطية” و”إصلاحية” بعض اليسار والقوميين من جهة…و”وطنية” و”جهادية” بعض الإسلاميين من جهة ثانية، ونتيجة الاختبار مؤسفة ومحزنة، وفي الحالتين معاً.
مركر القدس للدراسات السياسية