لذا فإن المثقف ليس بحمال للثقافة ومنتج لها فقط وإنما هو ضمير الناس قبل أي شيء آخر ولا يعني بالضرورة ذاك الشخص الذي يكتب الشعر والقصة والخواطر ويحمل شهادة وكفى كما فهمه الكثيرون في الوقت الذي لا يريد من أحد جزاء ولا شكورا .
سلاح المثقف قلمه وفكره وموهبته الذاتية وضميره الملتزم بقضايا مجتمعه وليس التعالي عليه والزعامة.
فليعلم الجميع أن المثقف ليس بعطار وبائع خردوات أو كاتب عرائض أمام السرايا يكتب الشكاوى والمطالب وإنما هو عين الشعوب ومحرك ذاكرتها وإذا ما أصاب هذا العين بالرمد أو العمى وتعطلت الذاكرة سيكون مصير أفرادها ليس بأحسن حال وليس حال الكرد الآن إلا هو نتيجة لغياب المثقف التنويري الحقيقي بين صفوف الشعب كرأس الرمح في ميدان التنوير كما كان يصف البارزاني الكبير المثقفين لأن ألد وأشرس أعداء الشعوب هي التخلف والأمية والغفلة بأحوال ذاتها.
صحيح أن المثقف بطبيعته متمرد ولا يستطيع العيش ضمن أطر مغلقة ولا يقبل على نفسه القيود من هذا وذاك لأن ثمار جهوده فردية لا جماعية وطبيعة عمله يتطلب الاستقلالية والفردية ومن أولى شروط الإبداع لديه هو التفكير الحر والضمير الحي فمتى وقع تحت وصاية الآخرين يتقزم ضميره ولا يبقى من شخصيته سوى الشكل والهيكل.
ويتحول من منتج إلى مستهلك ومن كاتب ومثقف إلى طبال ومطرب المناسبات.
فكل مثقف لا يمثل ضمير المجتمع يتجرد من وظيفته ورسالته الأخلاقية والإنسانية أيضاً وحينئذ كل ما يدعيه باطل ونفاق هذا من جهة ومن جهة أخرى أن كل مقاربة نحو المثقف الحقيقي خلاف هذا المنهج والحكم كمقياس لوجوده وتوصيفه يبقى كلاما لا معنى له وتجني سافر ومغالطة مقصودة.
إذا كانت وظيفة الفكر والثقافة الحقيقية هو التغيير والتحديث في البنى الأساسية للمجتمع وفي مقدمتها المنظومة القيمية والأخلاقية لشخصية الأفراد من خلال المصطلح والمفاهيم والنظرية وإحياء الثقافة والفنون والآداب بالإضافة إلى التوازن والتزاوج بين الأصالة والحداثة ولا بد من أن يكون الكاتب والمثقف على درجة كبيرة من الوعي والمعرفة بهذه الحقائق وأن لا يخرج من الإطار العام لأجل النهوض بالمجتمع في الاتجاه الذي يؤسس للتغيير والبحث عن أدوات جديدة تساعده على ذلك.
خلال الواقع المنظور هناك طلاق نفسي وحرب باردة وجفاء بين الثقافة والسياسة في المجتمع الكردي حيث لا يوجد للمثقف الملتزم بقضايا المجتمع من مكان لائق ضمن أجندة السياسيين بسبب تخلف هذا الأخير عن العصر وتمسكه بالكرسي والاعتقاد أن المثقف هو ضرة أو منافس وطارئ عليه ولهذا كانت مسارات حركتهما لم تلتقيان على مر السنوات السابقة والآن لنفس الأسباب وعلى ضوء ثقافة الغل وعدم الاعتراف والتفكير المتخلف لا يزال ينظر الكثيرين ممن يزعم و يدعي النخبة السياسية تجاه من هو مخالف معها في الرأي والموقف نظرة شك وريبة تشوبه العصبية و الغل والحقد والاستبداد الفكري والفوقية وهي شبيه بنظرة الآغا إلى قرويه وقبيلته أو كشيخ الطريقة إلى مريديه يستوجب منهم الطاعة والقبول الأعمى لآرائه.
ففي عرف هذا النموذج السياسي أن مجرد انتماء شخص إلى حزب سياسي ما يستوجب احترامه حتى لو ثقل بالخطايا والسلبيات وإن كان غير مؤهل للمرحلة.
لقد سار الكرد ومنذ زمن على النهج المتبع حاليا وأثبتت الأيام والوقائع أن هذا النهج غير منتج وغير حيوي فبدل أن يغير ويبني فقد كرس للعبودية والتبعية وخلق لثقافة الأصنام والاستسلام للقدر وخلق أيضاً ثقافة المساومة والمنهج الانتهازي على مبدأ (xal û xwarzê) وإخفاء السلبيات وماذا كانت النتائج …؟ الواقع الراهن الذي يعيشه الكرد..
أتدرون من كان السبب في هذا الوضع المتردي والسيئ..؟ بالدرجة الأولى مثقف البلاط والطرطور الذي تهرب من مسئولياته مقابل رضا السياسي عنه وعينه على بعض الفتات.!!!!!
هناك فرق كبير وهوة واسعة بين المنهج الذي يتبعه السياسي والمثقف حول الكثير من القضايا العامة والمستقبلية فإذا كانت نظرة السياسي حول أي مسالة تبنى على المقومات والممكنات مع الأخذ بالحسبان الظروف المحيطة بتلك المسألة فإن المثقف لا يعير لتلك الأسس والمعاير المذكورة من اهتمام كبير كونه يتعامل مع الوقائع والأحداث كما هي ومع المسائل فكريا وذهنياً ومعرفياً كما يجب وينبغي أن يكون في المستقبل دون مراعاة الظروف كونه ليس جهة تنفيذية ولا يأبى الظروف وإنما هو طرف مستكشف وتحريضي وتعبوي وتنويري ليس إلا ولا يمتلك من الأدوات والوسائل المادية الأخرى سوى الكلمة ومنهج التحليل العلمي والتركيب معتمدا في تقييمه على أسس ومقومات عامة ولا يأبى فيما إذا ما يدعو له سوف يرى النور في وقت قريب أو بعيد أم لا وإنما هو ملزم بقول الحقيقة والإشارة إليها وكذلك القيام بأداء وتوصيل رسالته بأمان إلى التاريخ ويضع نفسه رقيباً على الجهات التنفيذية سواء كانت تلك الجهة حزبا سياسيا أو سلطة حاكمة أو قوى معارضة وهنا تختلف نظرة وموقف الطرفين حول مجمل القضايا تكتيكيا وقد يلتقيان ويتفقان على الأسس العامة للقضايا الإستراتيجية .
فالأول لا يكشف عن نياته وخططه ويعمل في صمت ضمن الإمكانات المتاحة والظروف المساعدة بحكمة وحسابات دقيقة وكل خطأ يكلفه الكثير.
أما الثاني أي المثقف يعمل في العلن فلا يضع على كتاباته رقابة وقيود خارجية سوى رقابة الضمير وأن أدواته الحقيقية هي ملكة الإبداع وصفاء الوجدان وقدرته على التعبير وتسخير مواهبه في خدمة الجماعة في أداء رسالة كمتنور وناقد ومستكشف للأخطاء ومربي للأجيال..