ما بعد مشعل تمو

صالح بوزان

هل لدى النخب السياسية والثقافية الكردية مشروع لحل الأزمة السورية المتفاقمة؟ وبالأحرى هل لديهم مشروع خاص بأكراد سوري واضح المعالم؟

في الحقيقة لا أطرح هذين السؤالين اعتباطاً, سواء على صعيد الأحزاب أو على صعيد النخب المثقفة.

وإنما استنتجها من المشهد الكردي خلال ثمانية أشهر من الثورة السورية.
الشعب السوري لم يعد ينخدع بالقرارات اللفظية ولا بالبيانات الخلبية أو التصريحات الخالية من المحتوى في التلفزيونات والجرائد والمواقع الالكترونية.

لأن كل ذلك هو من الأعراض المستفحلة في العقلية السياسية الكلاسيكية السورية التي تعيش اليوم أزمة احتضارها.
لا أقول هذا الكلام للغمز من أي طرف سوري, لا العربي منه ولا الكردي.

بل ما أقوله يبدو أنه سمة عامة تسيطر على توجهات النظام, وتتجلى في عقلية الغالبية العظمى من المعارضات السورية, سواء الطرف الذي يدعو إلى إسقاط النظام, أو الطرف الذي يسعى إلى الحفاظ على النظام خوفاً من سقوطه مع سقوط النظام.

كما أن هناك طرف أكثر انتهازية, يتربص بالثورة لسرقة نتائجها في حال انتصارها.
 الأمر ينطبق على الطرف الكردي أيضاً.

فهو الآخر منقسم إلى اتجاهين.

اتجاه يتألف من الأحزاب الكردية السورية ومن يسير في ركابها من الكتاب والمثقفين وعجائز السياسة المتقاعدين.

هذا الاتجاه بدوره ينقسم إلى قسمين قسم مع النظام, ويساعده بشكل سري وخجول.

وقسم ليس له قرار ثابت وواضح المعالم حتى الآن.

فهو مع النظام إذا بقي وصمد أمام رياح الثورة, وضد النظام إذا ما حان زمن رحيله.

أما الاتجاه الكردي الثاني فهو يضم توجهات التنسيقيات الشبابية الكردية وجماهيرها التي تتظاهر معها في الشارع إلى جانب العديد من المثقفين والكتاب الكرد البارزين.

وقد كان مشعل تمو, كسياسي وكمثقف كردي, الوجه البارز لهذا الاتجاه.

ويبدو أن الطرف الذي اتخذ قرار تصفية مشعل تمو جسدياً, كان يدرك بعمق الخارطة السياسية الكردية المشتتة.

واستطاع العبور من خلالها ليرتكب جريمته.

إدراكاً منه أن العقلية الكردية الكلاسيكية غير قادرة على تحويل هذه الجريمة إلى مسيرة انتصار.

وبالتالي سيؤدي هذا الاغتيال إلى تقوقع الأكراد على ذاتهم والابتعاد عن الجماهير العربية المنتفضة.

زد على ذلك أن هذه العقلية الكردية الكلاسيكية كانت تشعر بالحرج الكبير(ومازالت) أمام الجماهير الكردية الثائرة التي فضحت الموقف المتذبذب للأحزاب الكردية تجاه الثورة السورية.
عند البحث عن جواب للسؤالين السابقين, لا بد أن نستعيد التاريخ قليلاً ونسترسل في التحليل بعض الشيء.
منذ أكثر من خمسين سنة رفع الأكراد السوريون مشروعهم القومي, وناضلوا من أجله طوال تلك السنين, وقدموا ضحايا.

لكنهم اعتمدوا في مشروعهم على الخلفية الكردستانية المتمركزة في الحركة القومية الكردية في العراق وتركيا.

ربما كان ذلك رد فعل للحركات القومية العربية التي استمدت رؤيتها من المحيط العربي متجاهلة البعد الوطني.

بالتالي لم يكن هناك مشروع قومي كردي سوري بالمعنى الواقعي ولا مشروع قومي عربي سوري.

أدى هذان المشروعان العربي والكردي إلى تناقض حاد فيما بينهما.

وانبثق عن هذا التناقض تلك المشاريع العربية العنصرية ضد الأكراد من قبل الأنظمة المتعاقبة على سوريا, منذ أواخر الخمسينيات وحتى تاريخ اليوم.
لا شك أن هذه المشاريع العنصرية انبثقت أصلاً من طبيعة الفكر القومي العربي منذ صاغها حركة القوميين العرب في الأربعينيات.

وتعززت على أرض الواقع مع الايدولوجيا القومية الناصرية والبعثية.

لقد نظرت  هاتان الإيديولوجيتان إلى القوميات الأخرى على أنها مشاريع للصهر في البوتقة العربية, هذا الصهر الذي بدأ منذ الدولة الإسلامية العربية.

وجدت هاتان الإيديولوجيتان في ولاء الأحزاب الكردية السورية لإحدى المركزين الكرديين في العراق وتركيا مبرراً مباشراً لتنفيذ هذه المشاريع العنصرية, وإيهام الشعب العربي السوري بأن ثمة خطر كردي على الأمن القومي العربي.
في الحقيقة نجح حزب البعث بهذا الاتجاه, لدرجة أن الرأي العام العربي في سوريا, قبل الثورة الحالية, كان معادياً للأكراد.

بل استطاع حزب البعث في سوريا والعراق من خلال توظيفهما لإعلام الدولة وتسخير أموالها على هذا الصعيد استدراج العديد من الساسة والكتاب والمثقفين العرب في العالم العربي إلى الموقف المعادي للأكراد.

ففي مواقف وكتابات هؤلاء لا تجد أي تعاطف مع الأكراد في القرن الماضي.

وظهر ذلك بشكل سافر في انتفاضة الأكراد عام 2004 إلا ما ندر.
أعتقد أن ولاء الأحزاب الكردية السورية لإحدى المركزين الكرديين في كل من العراق وتركيا لم يكن يهدف لتحقيق حلم كردستان الكبرى.

فهذا الاتجاه كان موجوداً أصلاً في أدبيات الأحزاب الكردية في هذين الإقليمين.

بينما كانت غالبية الأحزاب الكردية السورية تأمل من هذا الولاء تعزيز موقفها الداخلي في الصراع مع الحكومات السورية المتعاقبة من أجل حماية الذات وإفشال المشاريع العنصرية, وسعياً منها للحصول على بعض حقوق الشعب الكردي السوري.


ومع ذلك كانت النتيجة بالنسبة للحركة الكردية السورية سلبية.

فقد صاغ كل من النظام العراقي والسوري البعثيين مفهوماً عن الأكراد بأنهم يسعون إلى الانفصال.

وللأسف وقع التيار الماركسي السوري في مطب ايدولوجيا البعث القومية ضد الأكراد في سوريا.

فلم يسع هذا التيار يوماً إلى التقارب مع الحركة القومية الكردية السورية, ولم يتحالف معها من أجل تعزيز الشراكة الوطنية وتفعيل الدور الكردي في المسائل التي تتعلق بقضايا الشعب السوري أو بقضايا الوطن عامة.

بل تجاهل هذه الحركة وحاربها أحياناً بغية تعزيز تحالفه مع حزب البعث.
بكلمة أخرى, نستطيع القول أن المشروع القومي الكردي الكلاسيكي وصل إلى طريق مسدود نهاية القرن الماضي.

وأدى ذلك إلى تشتت الأحزاب الكردية في سوريا من ناحية, وإلى تصدير الطاقة الكردية السورية إلى المركزين الكرديين في العراق وتركيا من ناحية أخرى.

وبالمقابل فقد فشل أيضاً المشروع القومي العربي الذي صاغه حزب البعث.

والدليل على هذا الفشل هو التوجه الجديد للثورة السورية الذي تجاوز الصيغة البعثية للقومية العربية.

فالثوار يدعون صراحة إلى إسقاط حزب البعث ليس من السلطة فقط, بل كذلك كفكر وكإيدولوجيا.

كما أن البلبلة الفكرية والسياسية التي تعيشها الأحزاب الكردية السورية خلال ثمانية أشهر من الثورة السورية بينت أن هذه الأحزاب أصبحت من الماضي, والثوار الكرد تجاوزا عقليتها ومصطلحاتها.

إضافة إلى ذلك, فالمركزان الكرديان في العراق وتركيا لم يتضامنا مع الثورة السورية ولا مع أكراد سوريا.

بل وضعوا مصالحهما فوق مصلحة أكراد سوريا.

كما أن الشعوب العربية, ناهيك عن الأنظمة العربية, هي الأخرى لم تبد موقفاً تضامنياً عملياً مع الشعب السوري.
إن هذه الوقائع الجديدة وضعت الحركة الكردية السورية أمام مسار جديد.

وهو الانتقال من المشروع القومي الكردي الخاص إلى المشروع الوطني السوري الذي تشكل حقوق الشعب الكردي جزءاً من بنية المشروع الوطني السوري العام وليس خارجاً عنه.
يبدو أن مشعل تمو وشباب التنسيقيات الكردية والعديد من الكتاب والمثقفين الكرد المستقلين أدركوا هذا التحول وضرورته على الصعيد الكردي.

وبالتالي وضعوا أسساً جديدة لتوجه الحركة الوطنية الكردية كي تتخذ خصوصية سورية.

لقد وصل هؤلاء إلى قناعة أن المسألة الكردية في كل جزء من أجزاء كردستان هي مركزية في جزئها ولا يجوز إخضاعها لمتطلبات الأجزاء الأخرى.
في الحقيقة أن هذا الاتجاه الجديد في الحركة الكردية السورية يلاقي صعوبات جمة بل ضحايا أيضاً.

وكان مشعل تمو أول ضحاياه.

فالنظام لا يريد أن تندمج الحركة الكردية مع الحركة الوطنية السورية.

ونجد العديد من ممارسات النظام تدل على ذلك.

فهو يدفع الأحزاب الكردية إلى التمسك بمشرعهم القومي المستقل, وهناك معلومات بأن النظام طلب من بعض الجهات في المركزين الكرديين العراقي والتركي للضغط على أكراد سوريا للوقوف على الحياد في الصراع الدائر بين الثورة السورية والنظام.

يسعى النظام من وراء توجهه هذا تحقيق نتيجتين.

الأولى إضعاف الثورة السورية بتجريدها من المساهمة الكردية.

والثانية فبعزلها للحركة الكردية من الثورة ستسهل القضاء على توجهاتها القومية في المستقبل لكونها ستظهر للرأي العام السوري فيما بعد أنها خارج الوطنية السورية.
لقد ارتعب النظام من جمعة آزادي ومن التضامن العربي السوري مع مقتل مشعل تمو.

خصوصاً أن هذان الحدثان فضحا الاتجاه العروبوي داخل المعارضة السورية الكلاسيكية التي تقفز فوق حقوق الشعب الكردي السوري بجمل ومصطلحات باهتة.

كما أنهما فضحا تردد الأحزاب الكردية تجاه الثورة السورية.


أمام الحركة الوطنية الكردية في سوريا منعطف تاريخي.

هل ستندمج مع الثورة السورية وتساهم مع الثوار العرب في بناء سوريا الجديدة.

أم ستبقى متقوقعة في مسالك السياسة الكلاسيكية للأحزاب الكردية.

لقد أثرت ثمانية أشهر من عمر الثورة على الساحة الكردية تأثيراً كبيراً.

فبدأ الفرز داخل الحركة الكردية السورية بين الاتجاه الكلاسيكي الذي تجسده الأحزاب الكردية وبين الاتجاه الملتحم بالثورة.

هذا الاتجاه الأخير الذي يدعو إلى الخصوصية الكردية السورية التي لا يمكن فصلها من المحيط العربي السوري.

وقد وضع مشعل تمو ورفاقه والعديد من الكتاب الكرد المستقلين الحجر الأساس لهذا الاتجاه الكردي الوطني.

وعامودا هي النبض الأكثر فاعلية لهذا الاتجاه.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…