m.qibnjezire@hotmail.com
اعتاد المتنفذون و المهيمنون– وخاصة في الحالة الصحافية –وهي الحالة الغالبة –للأسف-، كفعالية حيوية في المساهمة في تكوين ثقافة العصر عموما، لاسيما الثقافة الاجتماعية –والسياسية منها طبعا-.
يبدو لي أن هذا النهج قد أصبح سمة في ثقافة المجتمعات –العربية خاصة- وغلبت السمات والخصال الأخرى التقليدية، والمفترضة، تلك القريبة من الفطرة البشرية –أو من الطبيعة البشرية – إذا رأينا في الفطرة ما قد يحتاج إلى نقاش بشأنه؛ كمعنى ودلالة ومضمون .
إن نتيجة هذا النقاش قد لا تكون مضمونة، ومتفق عليها- لذا سنبقى نستخدم مفهوم ” الطبيعة البشرية” الذي يفيد نوعا من الاشتراك في فهمها؛ وهي ذات طبيعة أقرب إلى الثبات ، لذا قيل في المثل الكوردي- بالتأكيد في أمثال الأمم الأخرى شبيه-: “الجبل قد يتغيّر مكانه لكن الطبيعة البشرية تبقى ثابتة “.
كما ووصف الفيلسوف الإغريقي الأشهر أرسطو ذلك في مقولة: “العادة هي طبيعة ثانية”، للدلالة على ثباتها.
يدرك الناس جميعا –سواء عبر وعي ومعرفة، أو عبر حدس نفسي أو عبر كليهما معا- بأن الحياة الاجتماعية – أي العلاقات- لا تستقيم بلا ضوابط تنظمها ، وتقوْننها –إن صح التعبير- في شكل أعراف وتقاليد وعادات… والأفضل في شكل قيم أخلاقية ايجابية، وقوانين واضحة المضمون والمفعول والأثر نابعة من وعي وإرادة وطبعا مصلحة الشعوب..!
ويدرك الجميع بأنه ما لم يتم ذلك، فإن فوضى وصراعات عمياء…ستظهر، تحركها الجهالة، والغرائز والميول البدائية…
لذا فقد كان جهد الرسل والأنبياء والحكماء والعقلاء عموما ، وتحت أي مسمى…، حثيثا؛ لكي يفهموا أسرار الحياة البشرية، ويستنبطوا من هذا الفهم قِيَما، ومعاييرَ، ومناهج …تعين جميعا على تهدئة نمط الحياة المعاشة، وتنظيمها وفقا لما يوفر الأمن والأمان، وحسن السلوك، وحيوية التفاعل والتعامل- في العلاقات عموما-وفي مختلف تجلياتها، و تكويناتها، ومراميها…الخ.
من هذه الأشياء(والأسرار) قيمة الإنسان.
نستعين بالآية القرآنية الكريمة لتعزيز الفكرة “ولقد كرّمنا بني آدم”.وطبعا المواثيق الدولية التي تشير إلى ذلك.
فمعنى التكريم هنا-فيما أفهم- هو التمييز بين الإنسان وبين الكائنات الأخرى، وتخصيصه بقيمة أعلى.
لذا قيل في آية أخرى :
” ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.
النفس البشرية تمثل تكريما لا حدود له تكاد تبلغ درجة –ومعنى- القداسة.، يعزز هذا ما ورد في الحديث الشريف ما معناه:
إن الكعبة وقدسيتها ومقامها، أهون على الله من قتل نفس بشرية بدون وجه حق.
وجه الحق في القتل طبعا هنا هو- ثبوت التهمة المحددة الموجبة لقتله؛ بعد إجراء محاكمة عادلة ونزيهة -ووفقا لمعايير واضحة- لتقرير مصيره، من حيث استحقاق عقوبة القتل أو غيرها.
وهذه المحاكمة –للأسف- قلما تتوفر مذ وجدت السياسة قوة مهيمنة في يد حكام لا يلتزمون بمعايير الحق إلا مضطرين في معظم الحالات… وهذه معضلة بشرية تاريخية ولا تزال،ودفعت البشرية أكلافا باهظة؛ ثمنا لذلك- ولا تزال الحالة مستمرة في الظروف الحاضرة، نتيجة سيادة ثقافة سياسية (غلبت الذاتية فيها).
مضمون هذه الثقافة السياسية؛ مصلحة المتنفذين-غالبا- وفي أي موقع كانوا، وبشكل خاص، الحكام والمقربون إليهم، أقرباء أو خدما أو متزلفون ومتسلقون-وصوليون- وما أكثرهم بكل ألم وأسف.
لقد امتهن بعض الناس- أفرادا وجماعات مختلفة- باسم الدين أو الطائفة أو القومية أو الوطنية أو غير ذلك… هذا النمط من التفكير، والسلوك، ليعيشوا كالقراد، يمتصون دماء الناس من خلف صلتهم الشوهاء بالحكام، ويفسدون-مع حكامهم في الأرض، متخفين في ظل مفاهيم مؤثرة في سيكولوجية الكثيرين…
والنتائج – للأسف- سلبية، ورهيبة على صعيد الواقع، وتكوين الثقافة الاجتماعية بمعناها الأهم –ومنها السياسة- ….!.
و الأخطر في هؤلاء، إنها جماعات- أيا كانت- تستغل المفاهيم ذات الصلة القريبة إلى نفوس الناس، كالعقائد وبعض القناعات… ليجعلوا منها وسيلة ممزوجة مع المصالح، ويغزلونها ثقافة اجتماعية، تاريخيا.
دعاني إلى هذه الكتابة، مشاهدتي لمنظر الراحل ” معمر القذافي ” المقتول بعد الأسر، وتذكري لمنظر الراحل صدام حسين حين الشنق وما رافق ذلك من تجاوز قيمي.
وأشياء شبيهة منها سلوك التعذيب والتجاوز المبالغ فيه في تعامل الأمن والشبيحة السوريين وغيرهم….
وعلى الرغم من أن موقفي من القذافي ومن كل المستبدين من أمثاله واضح، وهو محاكمتهم ومحاسبتهم، ومعاقبتهم بما يستحقون؛ بحسب القيم السائدة في حالات كهذه، وفي سياق الثقافة القانونية والأخلاقية البشرية..على الرغم من موقفي هذا ، إلا أنني أرى أن الالتزام بقيم ضابطة لسلوك الناس في أي مستوى؛ هو أمر ضروري، ومهم؛ أخلاقيا، وقانونيا، وثقافيا، ودينيا، … الخ (مع أن الأخلاق والقانون والدين جزء من الثقافة عموما، ولكن للتوضيح).
إن التشفي –وهي صفة ذميمة تأباها النفوس الحرة – يكاد يغلب في ثقافة الكثيرين بتأثير عوامل مختلفة.
( وربما يبدو في بعض حالاته مقبولا، من الناحية الواقعية، ولكنه أبدا ليس مقبولا أخلاقيا، فضلا عن تأثيراته السلبية جدا في إذكاء الحقد واستمرار الصراعات، والروح الثأرية في النفوس، وتتغلغل في الثقافة الاجتماعية بعمق مدمّر…مع الوضع في الاعتبار احتمال أن القتل بلا محاكمة تحريض من جهات لا ترغب في كشف أسرار عبر المحاكمة لأي سبب.
!
لا يختلف اثنان على تشخيص وتوصيف الجرائم التي يرتكبها بعض الحكام بحق شعوبهم- أفرادا وجماعات، وأحيانا الشعب بكليته- ومنهم القذافي وأمثاله ممن استحلّوا كل المقدسات لأنفسهم …بأنها جرائم مغرقة في البشاعة والإيذاء.
ولا يخفى على احد أن المئات والألوف -وربما الملايين- يتعرضون لشتى صنوف المعاناة في ظل أنظمة قمعية مستبدة …تنسى أو تتناسى أن الفلك دوار –كما يقال-“يوم لك ويوم عليك”..فكان سكرة القوة والانتشاء بما هم فيه؛ يجعلهم ينسون أن الزمن دوار….
ومن الطريف في هذا الباب، أن شعارا كان البعثيون يرددونه في مطلع اغتصابهم الحكم في سوريا والعراق،منذ أكثر من أربعة عقود.
تحت عنوان الشرعية الثورية الانقلابية..الخ..هذا الشعار هو:”الدهر دارت دورته ،والبعث قامت ثورته”.
لكنهم نسوا أن دورة الدهر لا تزال دائرة ويمكن أن تقوم ثورة غيرهم كما قامت ثورتهم ذات يوم، فصاروا يرددون “إلى الأبد إلى الأبد”…!!
وظن حكام استمرؤوا الحكم والفردية والاستبداد الحياة، دون أن يفكروا بان الزمن دوار، فكان سقوط صدام وما كان من إعدامه –ولنا في ذلك رأي- وكان مبارك وهو يساق على سرير إلى المحاكمة –ربما تقصّد الحالة هربا من نتائج الحكم، أو استدرارا لشفقة القضاة، وزين العابدين بن علي- تأملوا اسمه ومعناه ومغزاه- بدا كأنه الأكثر ذكاء عندما قرأ المشهد وقال –”الآن فهمتكم” ثم هرب .وعلي عبد الله صالح ونظام الحكم في سوريا..وغيرهم وغيرهم.
هؤلاء جميعا يتجاهلون حقيقة دورة الكون –أو الفلك- بل وإرادة الشعب التي تتوافق مع إرادة القدر بلغة الشاعر التونسي ” أبو القاسم الشابي” الذي كان كأنه يتنبأ لشعبه ولو بعد حين:
“إذا الشعب يوما أراد الحياة=فلا بد أن يستجيب القدر
ولا ننسى حديث الرسول (ص): “يد الله مع الجماعة”.
وكل السياسيين يكررون –نفاقا في معظمه وتردادا بلا تأمل وتمعن- أهمية الجماهير وقوتها وإرادتها…الخ، بل وحقوقها…خاصة الأيديولوجيون الأكثر ابتذالا في التعامل مع هذه المفاهيم.
ومن غرائب الأمور –وربما غبائها- أن هؤلاء الحكام الذين استُهلكوا في كل شيء فيهم؛ يحاولون أن يتحكموا في الشعوب استنادا إلى دعم خارجي ينكرونه على شعوبهم، وينسون –أو يتناسون- أن القوى الدولية التي ساندتهم، إنما تساندهم فقط من أجل ما يحصلون عليه من فوائد ومصالح من خلف ذلك، وعندما تنتهي فلا مساندة –وحتى في الحالة السورية وموقف روسيا والصين فهي حرب مع نفوذ أمريكا والغرب ،-إضافة إلى بعض مصالح ،النظام نفسه أدرى بها- وليس دعما للنظام كما يظن أو يتوهم…
ونذكر بمآل شاه إيران” محمد رضا بهلوي” الذي لم تؤْوِه أية دولة في العالم كله، بما فيها أمريكا- وكان يوصف بشرطي أمريكا في الخليج أو الشرق الأوسط- .
ولولا السادات –وربما بتوافق مع أمريكا –لظل ” الشاهنشاه”-أي ملك الملوك- يتنقل من مكان إلى مكان، حتى يلقى حتفه طبيعيا أو برصاصة قاتلة من خصومه السياسيين، أو المنكول بهم في ظل حكمه.في لحظة ما .
قالها ذات يوم صريحا “هنري كيسنجر” وزير خارجية أمريكا الأسبق، للمرحوم القائد مصطفى البارزاني: لا مبادئ في السياسة إنها مصالح فحسب- أو ما في معناه-.
هذا هو مفهوم السياسة عموما وفي الغرب خصوصا.
ولكن السؤال: هل السياسة فوق البشر؟ ام يفترض أن تكون من اجل البشر؟!