ثمانية أشهر، وقطار التغيير في العالم العربي متوقف في محطته الليبية…ولقد تعيين على الشعب الليبي الشقيق، أن يدفع عشرات ألوف الضحايا من رجاله ونسائه، شيوخه وشبابه وأطفاله، من أجل تحريك عجلاته الثقيلة مجددا، ودفعه للتجوال مجددا، بين هذه العاصمة العربية أو تلك…كل العواصم العربية بانتظار هذا القطار…بعضها وفّر سكة ضيقة وضعيفة للغاية، لا تتسع لعجلاته الفولاذية القاسية…بعضها الآخر، زرع الألغام على الطريق، و”فخخ القضبان” و”أفرغ المحطة من ركابها…لا طريق سالكاً وسلساً تنتظر قطار التغيير…الفرق بين عاصمة وأخرى، يتعلق بحجم الثمن والمعاناة والكلفة.
سقوط القذافي، وبالطريقة التي تم فيها، وصور الساعات الأخيرة من حياته التي ملأت الأرض والفضاء، سيكون لها أثراً ملموساً على تطورات الأحداث في عموم المنطقة العربية وعلى اتساعها….طاقة النظامين السوري واليمني على “المقاوحة” و”الصد” و”التعنت” ستضعف بشكل ملموس، مقابل تنامي الرغبة لديهما في توفير مخارج أفضل وضمانات أصلب، للبقاء الشخصي والعائلي، ما أمكن…أليس هذا ما يطالب به، بل ويستجديه الرئيس اليمني المحروق، صراحة ومن دون حياء أو خجل…ألا يمكن هنا بالذات، مغزى الاستعداد السوري لاستقبال وفد الجامعة العربية، بعد الرفض المدوّي الذي أعلنته دمشق لمهمة الوفد وتشكيله ومبادرته؟…أنهم يتراجعون…أنهم يضعفون…صور القذافي والمعتصم وأبو بكر يونس، “هدّت” طاقتهم على “الصلف” و”التعنت”….التغيير آت، وإن بعد حين، لكن “الحين” لن يطول، هذه المرة.
سقوط القذافي وصور مقتله البشعة، ستملي على كل حاكم عربي، من دون استثناء، التفكير والإقرار، وإن بدرجات متفاوتة، بأن استمرار الحكم بالوسائل القديمة، ما عاد ممكناً…طاقة هؤلاء على الاستئثار والتفرد والاستكابر والطغيان، لم تعد كما كانت…الشعوب العربية قادرة على اقتناص هذه اللحظة لإطلاق ديناميكيّات التغيير والإصلاح….في بعض الدول، لا معنى لذلك سوى رحيل النظام والزمر الحاكمة…في بعضها الآخر – قلة منها – يمكن للنظام أن يعيش مع التغيير ويتعايش مع الإصلاح، ولكن عليه أن يكون مستعداً لتقديم تنازلات جوهرية…ما عاد القديم صالحاً للحياة، بالذات بعد مغادرة قطار التغيير محطته الليبية.
لا بقاء بعد اليوم، لأنظمة “الجملوكيّات”…الجمهوريات الوراثية (الملكية) لم تعد خياراً لأي دولة أو مجتمع عربي….لا مكان للملكيات المطلقة….غير الدستورية وغير البرلمانية….وحدها نظم رئاسية برلمانية، أو ملكية برلمانية، يمتلك فيها الشعب زمام أمره وقراره ومصيره، ويصبح فيها المصدر الوحيد للسلطات والشرعية، يمكن أن تتماشى مع روح العصر ومتطلبات ربيع العرب وموجبات التغيير ومندرجات الإصلاح.
سقوط القذافي، حقن الشوارع العربية بشحنة أمل وطاقة على الصمود والتضحية والإبداع، ستجدد من نشاطه وحراكه…والأنظمة التي نجحت في “وأد” ثورات شعوبها، أو قطع الطريق عليها، عليها أن تستعد للفصل الثاني في مسلسل الربيع العربي، والذي نعتقد أنه سيدشن بانتصارات مدوية في اليمن وسوريا….وبعودة الروح إلى “شوارع” دول أخرى في شمال أفريقيا والخليج….وفي ظني أن اليمن، بعد قرار مجلس الأمن، سيكون المحطة الرابعة التي سيمر بها قطار التغيير العربي، على أنه لم يمكث هناك طويلاً، إذ تنتظره مهات عاجلة في دمشق.
ما زالت كلمات الرئيس “المحروق” تتردد في آذاننا: لقد فاتكم القطار…قطار التغيير لن يفوّت علي عبد الله صالح وزبانيته وعائلته وأنجاله، سيأخذهم تحت عجلاته وليس على متن عرباته…والارجح أن مصيراً مماثلاً سيواجه نظام دمشق، الذي أظهر قدرة خارقة على إضاعة كل الفرص وتبديد كل الصداقات والأوراق.
هي لحظة الحقيقة والاستحقاق لهذين النظامين ابتداءً…النظامان اللذان لم يتركا خياراً أمام شعبيهما، سوى طلب العون والإسناد من كل شياطين الأرض، وليس من المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة وحدهما، وإذا كان صدور قرار عن مجلس الأمن يحق الرئيس المحروق قد بات من الماضي، فإننا لا نستبعد أبداً أن يكون القرار التالي بحق نظام الأسد، بعد أن ضاق أصدقاء النظام “الأقربين”، بألاعيبه ومماطلاته وتسويفه.
وبعد ذلك يأتيك من “بواكي” الديكتاتوريات من يذرف الدموع مدراراً على سيادة واستقلال هذه البلدان، لكأن حكام الفساد والاستبداد فيها، هم سدنة السيادة والاستقلال، وليسوا هم أول من فرّط بها وفتح كل الأبواب لانتهاك حدودها، عندما وضعوا “كراسي سلطانهم” في صدارة أولوياتهم، وعندما ارتضوا أن تشيّد عروشهم فوق جماجم الرجال والنساء وعظام الأطفال والشيوخ…بئس الأنظمة وبئس “البواكي”.