سنةٌ كاملةٌ دونَ مشعل التَّمو!

إبراهيم اليوسف

ها أنا أجدُني – مرّةً أُخرى- في حضرة صديقي المناضل والكاتب مشعل التّمو، أقدِّم كتاباً عنه، بعد فاصل زماني- يكاد يقارب العقد من الزّمان- عن المرُّة الأولى التي قدّمت فيها كتابه الأول.

 ولعلّ أكثر من قاسم مشترك، يترءاى أمام ناظري، الآنَ ، بين تينِ المرَّتينِ ، في مقدمها أنه بعيدٌ عني، خارج حدود المكان، وفي داخله، في آنٍ واحد ، وأنا أقدِّم كتاباً له، أو عنه، لا فرقَ البتّة.
 أجل، في المرّة الأولى – أتذكّر- أنّنا سهرنا مع هذا الصّديق، في منزلي ، إلى وقت متأخِّر من الليل،  وبحضور مجموعةٍ من الأصدقاء، المشتركين ، كي نباغت بعد ساعاتٍ، فحسب، أنّ مؤامرةً محكمةً،مدبّرةً،كانت،منذ وقت سابق، قد حيكت في الخفاء، أو العلن، ضدّه ، وأنّه اضطرَّ مكرهاً،على إثرهامع أول خيوط الفجر، لمغادرة العنوان الأثير لديه، الذي تخيّره، وهو مدينة قامشلي ، بعد أن عرفته مدنٌ ، وعناوينُ كثيرةٌ، لم تتمكَّن من غوايته، ولم تعوِّضه عن بهاء هذه المدينة الأثيرة-كما سيروي القصةَ لي لاحقاً- كي يواظبَ- من بعيد- على التواصل معنا، أنّى أتيحَ له ذلك، لا يفتأُ يسألنا، أنَّى تأتى له ذلك، عن المدينة، وبنيها ، وعلاماتِها الفارقة، أشجارِها، وسمائِها المختلفة، بنجومها المعلقة،عالياً،ونكهتما الاستثنائية، بل و نهرها الذي بدت عليه- على حين غرّة- أولى ملامح جفافه ، في مؤامرة كبرى ، فغدا غير قادر، على إيصال رسائله ، وقصائده التي يكتبها إلينا، من استهلالة منابعه، معوّلاً علينا فكّ شفرات لوعته، وحنينه، أنَّى استطعنا إلى ذلك سبيلاً،يقول كلمته ، بلا مواربة ،يجنِّحها على طريقته، كي يحضَّ الأفواه المتيبسة على أبجدياتها، بأن تنبس بالمؤجَّل من الكلام، لديها ، تقذف به ، بعيداً عن زنزاناتها،كي يتصادى، إلى ما لا نهاية، مسهما ً بدوره مع كوكبة من فرسان الكلمة السوريين – بعامّة- والكرد منهم – بخاصة- في كسر شرانق الرَّتابة و الخوف، والزجِّ بمجمل الآراء الحرَّة، في مسارها الصحيح،ولعلَّ وقائعَ وأمثلةً شتّى تحضرُ ذاكرة كلِّ منصف، أو غير منصف، من حوله ،لو أراد ذلك، أو لم يرد!.

 وهاهي- المرّة الثَّانية، وأنا أمام صديقي مشعل التّمو، وإن بطريقة مختلفة ،تماماً ، حيث أمسك برأس خيط  ما جرى له، منذ سنة كاملة، كما تشير ورقة الرّوزنامة اليوم 14-8-2009، وأنا أكتب مقدِّمة كتابٍ آخرَ عنه، أتتبعُه، ملمحاً ملمحاً،في دورة التفاصيل،حلماً حلماً،في ربقة الانكسار الطارىء،   كي يستنهضَ في الذّاكرة  ذلك القلقُ العارم، القلقُ الذي تعرضنا له جميعاً: أصدقاءَ له ، ومحبينَ ،  وناشطينَ ، ومعنيينَ بالشّأن العام ، كما أسرته الصّغيرة ، حين غدا في معزل عن العالم الخارجي ،على حين غرة، حيث تم اختطافه، في فجر ذلك اليوم، كي  تمضي به على عنوان مجهول يدان أُخريان، تقودان سيّارته، ويداه في أصفادهما،قسراً،  وعيناه الواثقتان، معصوبتان، وهاتفه المحمول، تحت رحمة أصابع غريبة، لم يألفها، من قبل،  تأبى الرّدّ على من سيدبّ في نفوسهم الذّعر على اختفائه القسري، المفاجىء ، بعيداً عن حاسوبه الذي سيذكِّر ببعض مواقفه، وهو يرقب كلّ ذلك برباطة جأش، عرفتها-شخصياً- عنه في أكثر من موقع، حين انفضَّ الأدعياء،من حوله ، عند الحاجة القصوى، إليهم، لائذين بصمتهم القبري ،كي يؤلّفوا فيما بعد أساطيرَ ملفَّقةً ، كاذبة،في مخادع نسائهم ،ومجالسهم، أو مضافاتهم، ،أو اجتماعاتهم الحزبية،  عن بطولات شخصية،بل أبعد منها، ليدفع ضريبة كلمته، المدويِّة ، في مقام بات يحاسب فيه على رأي،  قد يصيب، أو يخطأ، وهو أحوجُ للنقاش ، بدلاً عن ممارسة أقسى ما يمكن من عقاب،  بحقّه، إلى أن يظهر بعد عشرة أيام، فجاءةً ، في إحدى محاكم دمشق القضائية،  وهو في قفص الاتهام، جنباً إلى جنب مع متّهمي الجنايات الشائنة، حين سيقدَّم معتقلو إعلان دمشق للمحاكمة في اليوم نفسه، والمكان نفسه: كي يقول لسان حال، من اختار الزمان والمكان على غير اعتباط، أومصادفة:ألا اعتبروا…!، فيواجه اتهاماتٍ عديدةً ،هي في إطارها العام مبنيةٌ على خلفية الموقف من رأيه، وهو الذي-كان- في موقع ينبغي أن يكافأ فيه، لما يحمله من حبّ جمّ لوطنه ، وإنسانه، دون استثناء ، بل وإن كان سيؤلِّمه أنّ بني جلدته – الكرد- لما يزالوا-بأسف!- يدفعون ضريبةًً، مضاعفةً، وترتكب بحقّّهم سياساتٌ تمييزيةُ،استثنائية،ظالمة، آنَ لها أن تُرفع عن كواهلهم المثقلة – كي يُعترفَ بهم دستورياً ، ماداموا أبناءَ هذا الوطن الجميل ، أباً عن جد ، وليسوا ضيوفاً طارئينَ عليه،  كما يروِّج لذلك بعض فقهاء الاستبداد، والمحضّين عليه،  من المتثاقفين، الأدعياء، الذين ينظرون للفسيفساء الوطني في بلدنا بعين الضَّغينة -وهي الوبال على الوطن- وعلى مفهوم المواطنة، نفسِهِ، هذا المفهوم الذي كان مشعل التمو أحدَ الرّادة الذين ناقشوه،ما أن لاحَ في الأُفق هامشٌ للحوار،كما تراءى له، ولآخرين، دون ورعٍ من صوّى،  وإشاراتِ مرورٍ، تعجّ بها دروب الرأي.

 ولقد كانت محاكماتُ المناضل مشعل التمو، في حقيقتها ، محاكماتٌ لمتهميه ، أجمعين ،داخل قوس المحكمة ، وخارجه، أياًّ كان هؤلاء، ومن بينهم المتشفّون به،  لما آلَ إليه من مصيرٍ، من أبناء جلدته، المختلفين معه، من ضيقي الأُفق،  الذين لا قدرة لديهم على قراءة اللّحظة، ولست هنا في معرض التشيِّع لرأي دون غيره،بل وأنا الذي طالما اختلفتُ معه في الرّأي، هنا وهناك، إلى درجة رفع الصوت عالياً، وهو موضوع آخر.

ثمَّة كثيرون، كتبوا عن مشعل التّمو ، كصاحب رأي ، بل أنَّ ما جرى له ، منذ لحظة اختطافه،  ومروراً بتقديمه للمحاكمة، وترجمة الحكم عليه قضائياً،ليزجُّ به في سجن عدراالمركزي، وما رافق كلّ ذلك من بياناتٍ، ومتابعاتٍ ، ورصدٍ ، من منظماتٍ حقوقيةٍ، وشخصياتٍ وطنيةٍ، وأحزاب سياسيةٍ،كان جميعها  مؤشِّراً صارخاً على واقع، وحالة حقوق الإنسان، وما يتمّ من انتهاكات هائلة ،حتى بحق النّشطاء الذين هم في موقع سماع آرائهم ، لتجاوز ما لا يليق بمكانة بلدنا ، وإنساننا، وبخاصة أنّنا نكاد ننتهي من أوّل عقود الألفية الثالثة، وولجنا عصر ثورة التكنولوجيا والمعلوماتية، وأنَّ كلّ ذلك أفرز واقعاً، جديداً، لا بدَّ أن يتمّ تناوله، من هذا المنظور الجديد، نفسه، وهو ما لم يتمَّ،  رغم كل ما يطلق – في هذا الصّدد- من دعوات غيورة.


 وحقيقة، إذا كان لمشعل التّمو حضورٌ شخصيٌّ في مساحة شاسعة من نفسي، رغم اختلافنا في الرّأي، في الكثير من النّقاط، كما أشرت، وهو ما يكاد ينسحب على غيره ،من قلّة ذات حضور لافت ،معرفياً،كما يخيّل إلي ،لم أتصوّر مدينتي – من دونهم- حتى في لحظات اختلافنا القصوى ، ماداموا يشكِّلون- في رأيي – أوضح ما فيها من خطوط ، و أبرز ما فيها من علامات فارقة،لذلك كان لغيابه -الموقوت -على امتداد الشريط الزّماني المنصرم وقعٌ كبيرٌ عليّ، وقعٌ يخلّف غصةً في الحلق، في هذا الزّمان الذي دأبنا فيه على تجرّع المرارات، ونحن ننشدُ لأبناء بلدنا – أجمعين- مستقبلاً يليق بقامته العالية ،كما هي الحقيقة .

وإذا كان مشعل التمو صاحبَ مشروع وطني، لم يتردَّد عن تقديمه ، بأعلى ما لدنه من صوت مدوٍّ،بلا هوادة ، فهو كان يضعُ أصبعه على المعادلة الأكبر، معادلة الحفاظ على الذّات، في مواجهة المحو،ضمن إهابها الوطني،،مصرّاً على الإمساك ببوصلة ، لا تخطأ،كما كان يفكّر، في تناول كلِّ ما أمامه من مفردات، لا يمكنُ تجاهل أيّ منها، ذاك كان رأي مشعل الذي دفع من أجله الضريبة،كي يحكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام ونصف، بكل أسف .

  ومن هنا،فإن تقديمي لهذا الكتاب هو مرافعةٌ عن أصحاب الرأي الآخر ، أنَّى كانوا،وأيّان كانوا ، وليس صديقي مشعل، وحده،  مرافعةٌ عن كلّ من هم في غياهب السجن، بأشكاله المتدرّجة الأليمة، ماداموا يعتمدون وسائل الحوار لطرح آرائهم ، بعيداً عن كافة أشكال العنف، المقيت ، أيَّاًّ كان منشؤه، وبالتالي دفاعٌ عن وطن نريده ، أبياً ،عزيزاً،كريماً،حرّاً، بحقّ ، مادمنا ركّاب سفينته ، شركاءَ فيه، نستظلّ بسمائه ، وفيئه، تستضيء لحظتنا، وتتدفِّأ، بشمسه، مادام هو العنوان الأجمل الذي ننطلق منه، ضمن خطوطه التي ترفض التمايز، وهي تشكل اللّوحة الأجمل.
ولكم أرجو أن يقرأ مشعل التّمو هذه التّقدمة المتواضعة، وهو خارج جدران سجنه،يواصل تقديم رسالته في السياسة- بل وفي دنيا الأدب، والفنّ،وقبل ذلك : الحياة الحرَّة الكريمة،  وهو الأديب والكاتب- كي ينعكس الحراك السياسي، في اتّجاهه الصائب، في خدمة وطنه السوري، وكي تتعدَّد الأصواتُ في لوحة الثقافة الوطنية، من خلال أرومة صداها الذي لن يمّحى، وهي خصوصيته ك: كردي،  بل سيظلّ ذلك الصدى يتردَّد،مدويِّاً، مادام أن السجنَ لن يكونَ حلاً لإسكات أيّ صوت، أصيل، ولنا في من يكملُ رسالته –مشكوراً- في ظلّ غيابه المؤقت، خيرُ شاهد، أوليس من يواظبُ على إظهار هذا الكتاب ،في محاولة لإنصاف من يتناوله على امتداد ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً، جدَّ قاسٍ، كالحٍ ، كئيبٍ، ،وفي مواجهة ما يدفعه مشعل التّمو من ضريبة باهظة من حريته، لخير دليلِ على أنه لمن الخطل الكبير مواجهة أصحاب الرأي، بغير الرأي، والحكمة،وأن كسر الأقلام، لم يكن على امتداد التاريخ حلاً ناجعاً، يحول دون قولة الحق.

تحية إلى كل من وقف مع المناضل مشعل التَّمو، في محنته، وهي وقفة مع أصحاب الرّأي الآخر، من منطلق الغيرة على الوطن، في الأصل.

تحية إلى صديقي، مشعل التّمو، في سجنه،إنساناً، غيوراً على مواطنه،  ووطنه ،دون استثناء،رغم إدراكه في كلِّ لحظة، ما يمكنُ أن يترتَّبَ عليه، من متاعبَ،لا تنتهي، مادام أنه قد اختارَ الدربَ الأكثرَ وعورةً، على الإطلاق.
تحيةإلى المعتقلين الكرد وراء القضبان الصَّمَّاء، وهنا يحضرني الأعزاء: مصطفى جمعة ورفاقه ، وإبراهيم برو ورفاقه، ومحمد موسى،وكل من أعرفهم ، ولا أعرفهم،من هؤلاءالأحبة، واحداً واحداً باسمه.
تحية إلى كلِّ أحبَّتي السوريين، أصحاب الرأي في سجون البلاد،داعياً بأعلى صوتي، كمعنيٍّ بحقوق الإنسان، لإطلاق سراحهم،أجمعين،ماداموا محبّين لبلدهم الحبيب،لا يؤمنونَ بأيٍِّ من ضروب العنف ، الذي لا يستوي والرّأي البتّة، بل هو حربٌ على الرأي، أينما كان .

قامشلي
14-8-2009
………………….
مقدمة كتاب أعده”تيار المستقبل” عن مشعل التمو، ولم يتم نشره حتى الآن، أنشره الآن في يوم استشهاده.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…