نارين عمر
تتغيّرُ الأمكنة تبعاً لتغيير وتغيّر الأزمنة وهذه حقيقة لا شكّ فيها ومن الطبيعي أن هذا التغيير يشمل مَنْ هم ضمن هذه الأمكنة من الكائنات الحيّة وخاصة البشر من حيث الطبائع والعادات والمفاهيم والتقاليد المتوارثة والمكتسبة بالفطرة أو بالفعل والممارسة ولكن أن يحمل هذا التغيّروالتغيير في طيّاته الأذية للبشر فهذا ما يدعو إلى التشاؤم وإلى الوقوف مطوّلاً عنده لدراسة أسبابه ومسبّباته ومعالجتها بعقلانيةٍ وحكمة ولكوني أعاني مثلكم من هذه الآفة التي تتطلبُ علاجاً فورياً فإنّي سأبدأ بمدينتي ديركا حمكو وأتساءل مع المتسائلين والسّائلين باسف:
أين أهل وناس وسكان ديركا حمكو ؟ أين المبادئ والقيم التي كانت تشكلُ العقائد المقدّسة في أساس شريعتهم الحياتية اليومية؟؟ أين الطيبة التي كانت تميّز أهل ديرك عن باقي سكان المناطق الأخرى, والتي زرعت حبّ واحترام ديرك وأهل ديرك في آلاف النفوس والقلوب؟؟ تغيّرتْ معالمها وآثارها التي كانت تشكل علاماتٍ فارقة في جبهتها الشّامخة.
أين عيون الماء التي كانت ترويها وتروي سكانها عشقاً خالصاً ودفء حسّ ( عين العسكرية, عين النساء, عين الرّجال……إلخ والبساتين التي تضفي عليها رونقاً ما بعده رونق ( بوخجي نادري, بوخجي جرمودي… نجم… ملاي حمدية….) والصّخور التي كانت ملتقى العشّاق والمغرمين يسردون عليها ولها حكايا عشقهم وصبوتهم (كفري حارو والثكنة العسكرية التي تضمّ أهل ديرك للراحةِ والرّحلات والنّزهات؟؟ أين القرى المحيطة بديرك المرتدية لثوبها الأخضر الفضفاض على مرّ الفصول وقلوب أهلها المفعمة بالكرم والعفويةِ والتلاحم الأسري والمجتمعي والتي كانت تعتبرها ديرك من بناتها المدللات المتبخترات/؟؟ لقد تركتْ نهم التوسّع العمراني يلتهمها ويخفيها في أحشاء ديرك التي ما بطلتْ التذمّر والرّفض لهذه الأعمال والأفعال التي تزيدُ من أعبائها؟؟!!.
نعم تغيّرت كلّ هذه الملامح والمعالم, بل اندثرت ودُرِستْ بفعل فاعل للأسف الشّديد ومَنْ الفاعل؟! أهلها وناسها وفي هذا الحزن الحزن كله والأسى الذي لا حدود له فإذا كانت الطبيعة مَنْ فعلت ذلك كنا سنواسي أنفسنا ونقول: سامح الله الطبيعة, أمّا أن تأتي الأذية من الحبيب؟؟
ربّما يعتبر البعض من الأخوة القرّاء أنّ الخوض في مثل هذه الموضوعات لا يجدي نفعاً لأنّ هذا التغيّر يعدّ نتيجة طبيعية لتغيّر الزّمان والمكان ولكنّنا كبشر نتقبّل التغيير الذي يتماشى ويتوافق مع مصالحنا الشّخصية والخاصّة ومعتقداتنا التي ندّعي الإيمان بها فكم من عادةٍ ما زلنا نحافظ عليها منذ مئات السّنين ولا نغيّرها بحجة الحفاظ على التراث أو عدم القدرة على تغييرها, وكم من مبادئ وقيم ننادي بها إذا توافقت مع ما نريدُ ونرغبُ به, وننبذها إذا تعارضتْ مع رغبتنا ومشيئتنا.
رسائل عدّة وصلتني, وتلفوناتٍ كثيرة يتساءلُ أصحابها فيها ويسألون بحرقةٍ وأسى: لماذا يا أهل ديرك سمحتم لرياح تغيير الأزمنة السّامة أن تعصفَ بأمكنتكم ومبادئكم وقيمكم؟؟!! كنتم مثلاً صالحاً ورمزاً نبيلاً يُقتدى به في الطيبةِ والكرم والتآلف الاجتماعي وصفاء النفس, والكثير أبدى دهشة واستغراباً حتى من الحالة المؤسفة التي توصّلَ إليها كتّاب ديرك ومثقفوها الذين سمحوا للأنانية والغيرة والنّميمةِ والهجوم غير المبرّر أن تغزو نفوسهم التي كانت بريئة, وعقولهم التي كانتْ خالية إلامن الفكر القويم السّليم, والودّ المتبادل بينهم والذي كان يحرّكُ مشاعر الغيرة لدى البعض منهم.
ولنكون منصفين لا بدّ أن نتوقفَ عند بعض الأسباب التي جعلت ديرك تقفز هذه القفزات النوعية نحو التغيير من أبرزها: تزايد عدد الوافدين من القرى والرّيف إليها, ممّا تطلبَ تـأمين سكن لهم وهذا كان على حساب الأراضي المجاورة لها والتي كانت مخصصة على الأغلب للزّراعة وكانت بساتين وحدائق تضفي على المدينة منظراً أخاذاً ساحراً بالإضافة إلى تأثر الشّباب الكبير بالتغيير الاجتماعي فالكثير منهم لا يطيقُ العيش مع أسرته في بيتٍ واحد ويفضّلُ العيش في بيتٍ مستقلّ وهذا بدوره يتطلبُ منزلاً والسّببُ الثالث يكمنُ في اختلاطِ أهلها بسكان المدن الكبيرة واكتسابهم لعاداتٍ جديدة كانت غريبة عليهم في التّعامل الاجتماعي والاقتصادي والفكري في ما تُسمّى بعمليةِ التأثر لا التأثير مع الأسف الشّديد, بالإضافة إلى الهجرات المتواصلة إلى خارج الوطن وتعويدهم على الحياة هناك واكتسابهم لبعض عاداتها وطرق معيشتها وعيشها بالإضافة لأسباب أخرى لاتتطلب التذكير بها لأنّها واضحة وجلية.ولنكون منصفين أكثر لابدّ أن نؤكّد على أنّ حاراتها القديمة التي تفوحُ منها العراقة والأصالة مازال يفوحُ منها عبقُ الطيبةِ والبساطة والتآلف العفوي الصّادق ومازال سكانها يحتفظون بالكثير ممّا نشأوا عليه من قيم ومبادئ أصيلة متأصّلة يتوارثونها ويزرعونها في نفوس وألباب أبنائهم وفي هذا العزاء الذي يدخلُ الطمأنينة إلى النفوس على هذه المدينة العريقة الأصيلة المزركشة بأبهى وأزهى ألوان الأطياف والملل التي تتوحّد وتتآلف فيما بينها في المسرّات والمضرّاتِ معاً ممّا يدعونا إلى أخذ الحذر والحيطة من كلّ رياح تغييرية تهبّ علينا فندع الهادئ والمنعش منها يتسرّبُ إلى مكامننا ونسدّ كلّ المنافذ أمامَ المضرّة والسّامّة منها لئلا تدعنا نضرّ ونؤذي بها أنفسنا والآخرين فالحرّية لا تعني أن نتقبّل الأذية بحجةِ التغيير إنّما الحرّية الحقيقية أن نتعلم كيف نتعامل مع هذا التغيير بكلّ تيّاراته وفورانها فالأخلاق وما تنتجُ من قيم ومبادئ ومفاهيم وما يترتبُ عليها من إرهاصاتٍ وإسقاطات يجب أن تظل ثابتة تواجه كلّ ما يهبّ عليها ويحاولُ زحزحتها أو تغيير مسارها.
ديرك كنتِ رمزاً لكلّ حسن وطيّبٍ ونبيل عودي كما كنتِ واعترفي ببعض الهفوات التي كادت أن تنال منكِ فأنتِ أصيلة والأصيل يظلّ أصيلاً حتى وإن انحرف عن مساره الحقيقي للحظات ولك الخلود والدّيمومة .