مصير الشعوب بين الرغبة والواقع

رضوان شيخو

أثبتت التجربة على أرض الواقع أن ما سُمي بالربيع العربي، الذي اجتاح المنطقة قبل أكثر من عقد من الزمن، لم يُسفر عن أية مؤشرات تدل على الربيع السياسي ولم يأتِ بأية نتائج ثورية تُقلب الواقع الرديء إلى واقع أفضل، ليس لأن الأنظمة لم تكن تستحق الانقلاب أو الثورة الشعبية ضدها، فمعظمها كانت غارقة في الطغيان والفساد والانحلال السياسي، ولا لأن القوى المجتمعية تفتقر إلى الإرادة في التغيير والانتقال إلى واقع يزخر بالحرية والحياة الديمقراطية، والاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي، وتوفير فرص العمل وحل المشاكل الداخلية لتلك البلدان.

بل يبدو أن هنالك قوى وأيدٍ خارجية تتحكم بمسارات ومآلات أي حراك وطني أو ثوري عبر “الريموت كونترول”، ولا تسمح بتجاوز السقف المرسوم لها، بحيث أن التخلص من ما هو سيء لا يأتي إلا بما هو أسوأ. فقد دخلت اليمن في حرب أهلية طاحنة بعد سقوط نظام علي عبد الله صالح، وسار الحال في السودان وليبيا على نفس المنوال. أما في سوريا، فبالرغم من أن الشعب السوري اكتوى على مدى أكثر من نصف قرن بنار أحد أسوأ الأنظمة التي عرفها التاريخ المعاصر، وعندما طفح الكيل بالشعب السوري وانتفض ضد ذلك النظام، سارعت القوى الإقليمية والدولية للتدخل، كل حسب مصالحها وأجنداتها. وبالتالي تم تحريف الثورة وإبعادها عن مهامها الثورية، كما تم دعم الجماعات المتشددة والراديكالية لغايات تخدم أجندات تلك الأطراف.

ربما كان الدور الأسوأ والأكثر إيلامًا للشعب السوري هو الدور التركي، الذي كان مدفوعًا بهاجسها المزمن والخوف من حصول الشعب الكردي في سوريا على وضع أفضل من ذي قبل. هذا الخوف كان ناتجًا عن سياسات الإنكار والقمع وعدم الاعتراف بوجوده، خوفًا من انتقال “العدوى” إلى كردستان الشمالية. بالإضافة إلى أطماع تركيا الجغرافية والاقتصادية ومزاعمها التاريخية وأحلامها في إحياء الإمبراطورية العثمانية. ونتيجة لذلك، عمل الرئيس التركي على ركوب “الثورة السورية”، ونجح إلى حد كبير في اختطافها، وتحويلها بعيدًا عن أهدافها المنشودة. بدلاً من التركيز على إسقاط النظام، حولت الفصائل التي رعتها تركيا بنادقها صوب المناطق الكردية.

وبعد أن وصل النظام السوري إلى مرحلة من الضعف والإرهاق، ووصل إلى درجة عدم القدرة على الاستمرار، وتخلى عنه حلفاؤه، سقط. لكن “المولود الجديد” الذي جاء بعد مخاض عسير ، لم يكن بحجم تطلعات الشعب السوري. فقد أصبحت البلاد في حالة من عدم الاستقرار والفوضى، مع انعدام وضوح الرؤية المستقبلية، وانتشار القلق والخوف من المجهول لدى عامة الناس، وخاصة أولئك الحريصين على مستقبل البلاد.  الوضع على الساحة السورية مربك ومعقد للغاية ولا بد من التوفيق بين التصريحات الشفهية والممارسات التي باتت تقلق معظم مكونات الشعب السوري. وقد أثبتت الحالة السورية أكثر من غيرها من الأمثلة التي تم ذكرها، أنها أصبحت المعيار الحقيقي لفكرة هذه المقالة، وهي أن الأمور لم تعد تسير وفق رغبة الشعوب فقط، بل هي حسابات وقراءات دقيقة للمصالح والتوازنات الدولية التي يجب أن تتوافق مع مصالح الشعوب وضمان مستقبلها.

الأمور لم تعد تتغير إلا بمساعدة العوامل الخارجية، وعندما تلتقي مصالح تلك الشعوب مع مصالح القوى العالمية المهيمنة على الساحة الدولية. وفي غياب هذا التوافق، قد يدفع الشعب ثمناً باهظاً من الدماء دون أن يحصل على ما يريد. فالرغبة في تحسين الأوضاع حق طبيعي، ولكن ما تقرره القوى العظمى وفق ترتيباتها وأولوياتها قد يختلف تمامًا عن تطلعات الشعوب.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…