خوشناف سليمان
منذ اندلاع النزاع المسلح في سوريا عام 2011، لم تعد خريطة النفوذ والسيادة في سوريا نتاج الديناميات الداخلية وحدها، بل أصبحت خاضعة مباشرة لتأثيرات إقليمية ودولية أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية للبلاد. وفي هذا السياق برزت أنماط متباينة من الحكم المحلي شكّلت مساراً تدريجياً لتفكك الدولة المركزية، ونتيجة طبيعية لتآكل سلطتها والتحولات الميدانية والأمنية التي فرضت وقائع يصعب تجاوزها أو التراجع عنها. وتُعد تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشمال شرق البلاد “روجآفا”، إلى جانب نموذج السويداء في الجنوب، أبرز هذه النماذج. فقد نشأت الأولى في سياق الانسحاب التدريجي لقوات نظام الرئيس الفار بشار الأسد، ما أتاح المجال لتأسيس بنية مدنية وأمنية متكاملة تضم المجالس المحلية وقوات الأسايش وقوات سوريا الديمقراطية باعتبارها الركائز الأساسية لهذا النموذج.
ورغم غياب الاعتراف الرسمي وتعدد الانتقادات والثغرات البنيوية، تمكنت الإدارة الذاتية من ترسيخ حضور مؤسسي فعّال، مستفيدة من الدعم الدولي، وخاصة الأميركي، ومن دورها في الحرب ضد تنظيم داعش، الأمر الذي منحها شرعية وظيفية يصعب تجاوزها في أي مقاربة لإعادة هيكلة الدولة السورية مستقبلاً. ولا يمكن فهم هذا المسار بمعزل عن الكلفة البشرية الكبيرة التي تحمّلها السكان، وفي مقدمتهم الكُرد إلى جانب مكونات أخرى، خلال معارك التحرير والصمود في مواجهة داعش والاعتداءات التركية. فقد ارتقى آلاف الشهداء والضحايا، وهو رصيد رمزي وأخلاقي يتجاوز حسابات الربح والخسارة، ويجسد في الوعي الجمعي الكُردي مثالاً وطنياً للدفاع عن الوجود والكرامة، كما يشكل مصدراً لشرعية سياسية وأخلاقية تتخطى الحسابات البراغماتية الضيقة.
وعلى النقيض من “روجآفا”، شهدت السويداء مساراً مختلفاً للحكم المحلي؛ إذ لم تتشكل هناك إدارة مستقلة منذ البداية، غير أن التطورات الميدانية، ولا سيما محاولات فرض سيطرة أمنية مشددة من قبل قوات مرتبطة بحكومة الرئيس المؤقت أحمد الشرع، شكّلت نقطة تحول مفصلية. وقد تحول الرفض الشعبي إلى مقاومة مسلحة واجهها رد عنيف من المركز، لكن بثمن سياسي مرتفع، ما أدى إلى اتفاق رعته الولايات المتحدة وبضغط مباشر من إسرائيل منح السكان – وغالبيتهم من الطائفة الدرزية – شكلاً من أشكال الحكم المحلي الفعلي. وتمثل هذه التجربة امتداداً لمنطق تفكك المركز وبروز الهامش، غير أن خصوصية الجنوب تكمن في ارتباطه بمعادلات إقليمية حساسة. فلا يمكن فهم ما جرى هناك بمعزل عن الدور الحاسم لإسرائيل في تحديد مآلات المواجهة، ليس فقط عبر الوساطة والضغط السياسي، بل أيضاً من خلال تدخل عسكري مباشر استهدف منشآت ومراكز لإدارة الشرع حتى في قلب دمشق، ما وجه رسالة واضحة بأن إسرائيل هي التي ترسم الخطوط الحمراء لأمنها القومي. ورغم صمت الولايات المتحدة الأولي، انسجمت لاحقاً مع هذا التحول، وتراجع دور مبعوثها الرسمي توماس باراك المعروف بمواقفه المهادنة تجاه أنقرة، ما عزز فرضية تراجع واشنطن وتركها زمام الحسم الميداني والسياسي لتل أبيب.
ويبقى السؤال الأعمق: هل ما جرى في سوريا تفكك عرضي فرضته تعقيدات الحرب، أم نتيجة هندسة استراتيجية مقصودة أعادت صياغة الدولة على أسس جديدة؟ في هذا الإطار بدأ الحديث في دوائر سياسية وعسكرية إسرائيلية عن ضرورة ربط جغرافي بين مناطق الجنوب السوري، لا سيما السويداء، ومناطق الشمال الشرقي “روجآفا”، مروراً بالبادية الشرقية ودير الزور وصولاً إلى معبر سيمالكا على الحدود مع إقليم كوردستان العراق. ويشكل هذا الربط أكثر من مجرد مسار لوجستي، إذ يعكس مشروعاً جيوسياسياً متكاملاً يعيد تشكيل خطوط الاتصال والتحالفات داخل سوريا بما يخدم المصالح الأمنية والاقتصادية لإسرائيل والولايات المتحدة. ويحظى هذا المشروع، المعروف باسم «كوريدور داوود»، بحماية عملية من خلال انتشار قواعد أميركية في مناطق استراتيجية مثل التنف والشدادي والرميلان، مما يمنحه عمقاً استراتيجياً وشرعية فعلية بحكم الواقع. ويُخطط أن يمر الممر عبر مناطق استراتيجية تشمل التنف ودير الزور والبصيرة والحسكة، بهدف إقامة ربط استراتيجي يربط إسرائيل بمناطق الجنوب السوري وصولاً إلى إقليم كوردستان.
بعد أكثر من عقد على اندلاع الأزمة السورية، لم يعد الوضع يُفهم بوصفه تفككاً مؤقتاً أو تراجعاً عابراً في سلطة الدولة، بل تحولاً بنيوياً في طبيعة الدولة السورية. فقد انتقلت الدولة من كيان مركزي موحد يحتكر السيادة إلى كيان تفاوضي متعدد المستويات، تتوزع فيه السلطة بين مراكز محلية مدعومة خارجياً وتدار ضمن توازنات دقيقة على الصعيدين الإقليمي والدولي، بما يعكس تأثير المشاريع الخارجية في إعادة تشكيل الخريطة الوطنية أكثر من البناء الداخلي. وتجسد تجربتا السويداء و”روجآفا” هذا التحول من خلال وجود سلطات محلية ومؤسسات أمنية ودعم خارجي غير معلن، إضافة إلى وظائف سياسية تتجاوز الإطار المحلي التقليدي. ويعمل النموذجان في فراغ السيادة المركزية، ما يجعل استعادة الدولة السورية إلى هيكلها السابق لعام 2011 شبه مستحيلة. وبهذا المعنى، لم تعد السيادة السورية متصلة أو متجانسة، بل أصبحت موزعة ومركبة، خاضعة لتوازنات دولية وإقليمية تعيد تعريف وظيفة الدولة وحدودها وتؤسس لواقع جغرافي سياسي جديد.
بناء على ما سبق، لم يعد السؤال متعلقاً بما إذا كانت سوريا قد تفككت فحسب، بل يمتد إلى تساؤلات أعمق حول الجهات التي هندست هذا التفكك، والخرائط البديلة التي يُعاد على أساسها تشكيل المجال السوري، وما إذا كان التفكك نتيجة أحداث عابرة أم جزءاً من مخطط استراتيجي متكامل.