رشاد فارس
نعم، لم يدخل أبي سجن صيدنايا، ولم يُعذَّب كما البعض، ولم يتشدق يوماً بما لم يصنعه. كان يخبئ كل أوجاعه في داخله، وينشر الابتسامة والأمل أينما حل. كان رجلاً مسالماً بسيطاً بكل ما للكلمة من معنى.
موقف واحد كنتُ السبب في حدوثه. كان ذلك عندما كنا نشارك في احتفالات نوروز عام 1997. أخذته قوات أمن الدولة ليوم واحد، لأنني كنتُ ذلك المراهق الذي تعلق بالقصائد الوطنية، حيث ألقيتُ في ذلك العام قصيدة من على مسرح نوروز بعنوان “على طريق البارزاني سائرون”. تم توقيف أبي في فرع أمن الدولة في الحسكة، وعند ذهابي إليهم لإخراجه، اصطدمتُ بأساليب البعث القذرة، حيث كان يتم القبض والتحفظ على أي شخص من العائلة حتى يسلم المطلوب نفسه، خاصة في مناطقنا الكردية، وكانت هذه الإجراءات متبعة في أغلب مناطق سورية.
الموقف الذي جعلني أخجل أن أضع عيني في عين أبي لمدة ستة عشر عاماً حتى توفاه الله، حدث عندما دخلتُ إلى الفرع وطلب الضابط إحضار أبي من غرفة الحجز. كان معصوب العين بشيء أسود، غالباً ليس من القماش، بل من جلد يُسمى بالعامية “كفجوك”، وهو من دواليب الدراجات النارية الداخلية. عند رفع العسكري لهذا الشيء عن عينه، لم يتسنَ له الرؤية جيداً، وعندما سأله الضابط: “هل هذا الكلب ابنك؟” تأخر أبي في الرد، فقام العسكري بضربه بكف ما زال محفوراً في ذاكرتي حتى اليوم. رغم مرور كل هذه السنين، لا أستطيع أن أنساه.
أدرك أبي أنني أتهرب من مواجهته لسنين طويلة، وأخجل أن أضع عيني في عينه بسبب ما حدث بسببي. في أحد الأيام ناداني قائلاً: “اجلس بني، أنت لم تفعل ما يجعلني أخجل منك، أو ما يستحي منه أي شخص. نحن أكراد، وما حدث كان بسبب قوميتك. أنت في نظرهم خائن، ولكن في نظري ونظر قوميتك، أنت بطل. هذا هو الوضع، وعلينا دفع ثمن البطولة، أليس كذلك؟” ثم ابتسم محاولاً زرع ابتسامة في وجهي بدلاً من ذلك الموقف المؤلم.
توفي ذلك الرجل البسيط، وما زلت أشعر بالخجل منه كلما نظرت إلى صوره. وعندما يسألني أحدهم عن الظلم والعذاب الذي تتعرض له القومية الكردية، أذكر أن هذه نقطة في بحر من القتل والتهجير والظلم الذي يعانيه الأكراد. جعلني هذا الموقف أطرح هذا الموضوع وأنا أبحث في صور عائلتي المشتتة بين متوفى ومهاجر، وما فرقت بينهم المسافات والأيام.
في النهاية، أعتذر منك يا أبي إلى الممات.