المصالحة المؤجلة: ملامح السلام الكردي–التركي تعود إلى الأفق وتنعكس على مستقبل المنطقة 

شيرزاد هواري 

منذ أكثر من عقد، خاضت تركيا محاولات جادة لإنهاء الصراع الداخلي المزمن مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، عبر ما عُرف بـ”عملية السلام” التي هدفت إلى فتح صفحة جديدة عنوانها الحوار بدلاً من السلاح، والشراكة السياسية بدلًا من الاقتتال. هذه المرحلة المفصلية كانت مليئة بالأمل، ورافقتها رموز وتفاصيل شديدة الرمزية أبرزها الدور الذي لعبه الزعيم الكردي مسعود البارزاني، في دعم خطوات السلام وتهيئة الأجواء بين الطرفين.

بلغت هذه المرحلة ذروتها في مشهد فني وثقافي لا يُنسى، حين اجتمع الفنان الكردي العملاق شفان برور مع الفنان التركي الشهير إبراهيم تاتليس في أمسية فنية تاريخية في مدينة آمد (ديار بكر)، بحضور كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الكردي مسعود البارزاني، في ما بدا يومها إعلانًا شعبياً عن بداية جديدة تُبنى على التفاهم لا التصعيد.

لكن هذه المساعي تعثرت لاحقاً بسبب شروط متبادلة لم تجد طريقاً للتوافق، ما أدى إلى انهيار العملية وعودة الحزب إلى العمل المسلح، وتفاقم التوترات مجددًا.

ورغم هذا الجمود الذي استمر سنوات، طرأت مؤخراً تطورات مفاجئة أعادت إحياء الأمل بإمكانية تجديد مسار السلام، وذلك مع مبادرة أطلقها زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، دعا فيها الزعيم الكردي عبدالله أوجلان للانخراط مجددًا في المشهد السياسي التركي عبر البرلمان، والمساهمة في إنهاء الكفاح المسلح من خلال حل حزب العمال الكردستاني. وقد جاءت هذه الدعوة متزامنة مع رسائل من أوجلان نفسه حثّ فيها قادة الحزب على عقد مؤتمر عام لتجديد خطابه السياسي وإلقاء السلاح، والانخراط في الحياة المدنية السياسية.

ردود الفعل القادمة من جبال قنديل تشير إلى وجود تجاوب واضح من قادة الحزب، مما يفتح نافذة واقعية نحو مصالحة شاملة قد تعيد ترتيب المشهد الكردي–التركي برمّته، لا فقط ضمن حدود تركيا، بل على مستوى الإقليم أيضاً.

البُعد السوري: المصالحة التركية–الكردية وتداعياتها الإقليمية

إن أي مصالحة تركية–كردية داخلية لن تقتصر آثارها على الحدود الجغرافية لتركيا، بل ستكون لها انعكاسات مباشرة على الوضع في سوريا، وتحديدًا على الكرد السوريين في مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا.

من شأن عودة حزب العمال الكردستاني إلى الحياة السياسية ووقف العمل المسلح أن تخلق مناخًا إقليميًا أكثر استقرارًا، وتقلل من التوتر بين أنقرة والإدارة الذاتية المدعومة بشكل غير مباشر من الحزب. كما قد تمهّد هذه المصالحة الطريق لإيجاد تسوية سياسية أوسع في سوريا، تشمل أطرافًا كردية سورية تسعى إلى التفاهم مع كل من دمشق وأنقرة على حد سواء.

وقد ينعكس هذا المناخ الإيجابي على إعادة بناء الثقة بين أنقرة والمكونات الكردية السورية، بما في ذلك احتمال فتح قنوات حوار جديدة تضمن حقوق الكرد السوريين ضمن إطار الدولة السورية، وتمنع في الوقت ذاته خلق جيوب صراع على الحدود قد تُستخدم من قبل أطراف إقليمية ودولية لتعقيد المشهد السوري أكثر مما هو عليه.

كما أن إقليم كردستان العراق، الذي حافظ على سياسة متزنة تجاه الجارتين تركيا وسوريا، قد يشكّل منصة دعم قوية لإنجاح هذه المصالحة عبر وساطات وخطوط تواصل غير معلنة، تؤسس لمرحلة جديدة من التفاهم الإقليمي.

خاتمة: فرصة تاريخية لا ينبغي إهدارها

بوادر المصالحة الحالية بين الدولة التركية والحركة الكردية، برعاية ودعم من زعامات كردستانية، تُمثّل فرصة حقيقية لتجاوز أحد أعقد النزاعات في المنطقة. نجاح هذه المصالحة لن ينعكس فقط على الداخل التركي، بل سيمتد أثره إلى الاستقرار الإقليمي، خصوصاً في سوريا والعراق. السلام لم يعد خيارًا ترفيًا، بل ضرورة جيوسياسية وأخلاقية لحماية مستقبل الشعوب، وضمان العيش المشترك في إطار سياسي يحترم الخصوصيات القومية والثقافية ويؤسس لمرحلة جديدة من البناء لا الهدم.

إن تاريخ الشعوب يصنعه من يجرؤون على اختراق الجدران العالية، وليس من يبنون أسوارًا جديدة. فهل تكون هذه الجولة بداية النهاية لصراع طال أكثر مما يجب؟

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…