د. محمود عباس
إن تفكيك النسيج الديني الكوردي لم يكن عارضًا، بل سياسة ممنهجة، تكررت في القرن العشرين عبر بثّ الفُرقة داخل الحركات السياسية الكوردية نفسها، وتحويل الانتماء المذهبي إلى أداة صراع، وهكذا، تقاتلت فصائل كوردية متقاربة في الأهداف، متناحرة في الدعم الإقليمي، بسبب استغلال الدين كأداة أيديولوجية.
واليوم، أمام محاولات إعلامية وثقافية متجددة تهدف إلى الطعن في أصالة القضية الكوردية، وتشويه تعدديتها، وتصوير الكورد على أنهم شعب بلا تاريخ روحي خاص، يصبح الدفاع عن هذا التنوع ليس ترفًا فكريًا، بل حاجزًا ضروريًا ضد مشاريع الإلغاء.
هذا التآكل الداخلي، الذي انطلق من مكر الجغرافيا السياسية، لم يكن مصادفة، بل كان ثمرة تخطيط ممنهج لإضعاف أي نهوض كوردي موحد. وقد صاغ المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (في كتابه المراقبة والمعاقبة) مفهوم “تفتيت السلطة عبر الانقسام المجتمعي”، وهو ما ينطبق تمامًا على الحالة الكوردية، حيث حُوِّلت التعددية من فرصة وجودية إلى أداة هيمنة.
إن المهمة الكبرى اليوم أمام المشروع القومي الكوردي ليست في العودة إلى أصول دينية واحدة، بل في ترسيخ هوية سياسية قومية تستوعب كل هذا التنوع. فالتعددية ليست نقيضًا للوحدة، بل هي جوهرها في الفلسفة الكوردية، التي ترى في كل دين طريقًا نحو المعنى، لا أداة لفرضه. وكما قال المتصوف محيي الدين بن عربي،
“قلبي صار قابلاً كل صورة، فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبان، وبيتٌ لأوثان، وكعبةُ طائف.”
بهذه الروح، وحدها، يمكن أن تنهض كوردستان كأمة لا تتفكك أمام خطوط المذاهب، بل تنصهر في هوية جامعة، تحميها من التشظي، وتؤسس لمستقبل لا تنكسر فيه الجماعة تحت وطأة الخديعة السياسية المتلبسة بلبوس الدين.
في زمن الأصوليات المتعالية، وتيارات الإلغاء المتخفية بأقنعة الوطنية أو الإيديولوجيا، تبرز كوردستان كصوت مخالف، يذكّر العالم بأن التعدد ليس نقيضًا للانتماء، بل جوهره. ومن أراد أن يفهم القضية الكوردية، عليه أن يبدأ من هذه الأرض التي عبدت الشمس، ورفعت راية التوحيد، واحتضنت الأنبياء، وجميع الأديان التوحيدية، وخلقت من الألم قصائد للحب الإلهي. كوردستان ليست مجرد قضية سياسية، بل روح تتعدد، ولا تنكسر. التعددية فيها ليست خيارًا، بل قدر تاريخي يجب صونه، لأنه صمام الأمان ضد التمزق، وبوابة التحرر من الهيمنة.
والدين في كوردستان هوية روحية لا قيد سياسي، فرغم موجات القهر ومحاولات التعريب والتتريك والتفريس، لم تفلح القوى الغازية في محو التعدد الديني أو إذابة الهويات، بل ظل الكورد، في سرهم وعلنهم، يعتزون بجذورهم الدينية القديمة، ويحتفون بتنوعهم كقيمة وجودية، حتى حين اعتنقوا الإسلام، ظلوا يحتفظون بملامح من دياناتهم السابقة، وابتكروا مذاهب صوفية خاصة بهم، ترفض التشدد وتحتضن الجميع.
ورغم التجربة القصيرة زمنيا لغربي كوردستان، وللإقليم الكوردستاني الفيدرالي، إلا انهم أثبتوا على أن الشعب الكوردي كقومية واحدة متعددة الأديان، وعلى أنها ليس فقط مجرد تجربة اجتماعية، بل تحول إلى جزء من البنية القانونية والسياسية في كوردستان المعاصرة. في إقليم كوردستان العراق اليوم، هناك ثماني ديانات ومعتقدات دينية رسمية، لكل منها معابدها وكنائسها ومراكزها، وتحظى جميعها بالحماية القانونية والرعاية الحكومية.
يوجد في الإقليم أكثر من 5800 مسجد وجامع، و145 كنيسة، و400 معبد ديني لمختلف الأديان.
هناك مديرية خاصة للتعايش الديني ضمن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، تشرف على شؤون جميع الأديان وتدير الحوار بينها.
الحكومة الكوردية ترمم الأماكن المقدسة لكل الأديان، وتدعم بناء الكنائس والمعابد، وتحرص على إشراك ممثلي جميع المكونات الدينية في الحياة العامة.
ربما لا يدرك المتربصون بالكورد أن الحكمة التالية “الدين لله والوطن للجميع” تتردد في وجدان الكورد، ليست شعارًا سياسيًا فقط، بل هي خلاصة تجربة روحية وفكرية عميقة، فالكوردي، في جوهره، يرى في كل إنسان أخًا في الخلق، وشريكًا في الأرض، مهما اختلف الدين أو الأصل. لهذا، لم يعرف تاريخ كوردستان مجازر دينية داخلية، بل كانت الصراعات دائمًا بفعل تدخلات خارجية أو سلطات إمبراطورية، كالإمبراطورية العثمانية والقجارية الصفوية، سعت لتفريق الشعب الواحد.
في زمن الانغلاق والتعصب، وفي عالم يمزقه الصراع الطائفي، تقدم كوردستان نموذجًا فلسفيًا وإنسانيًا نادرًا، أن وحدة الشعب لا تعني وحدة الدين، وأن التعدد ليس ضعفًا، بل مصدر قوة وثراء، وكما يقول أحد حكماء الصوفية:
“كل الأديان أنهار تصب في بحر الحقيقة، ومن ظن أن بحره وحده هو البحر فقد جهل سر الماء.”
وإن أُريد لهذا الشعب أن يُكسر، فلن يكون ذلك من الخارج، بل حين ينسى جوهره الروحي، ويتخلى عن تعدديته التي جعلته منيعًا، عبر آلاف السنين، أمام كل حملات الإنكار والمحو، ولهذا تجند الأنظمة المحتلة لكوردستان بين حين وأخر، خبثائها، وأيتام البعث وفلول داعش، كأحد أساليب صد الكورد وتهميش القضية الكوردستانية.
كوردستان اليوم، بين أن تكون فلسفة روحية جامعة، أو تتحول إلى ساحة جديدة لصراع الهويات القاتل، والخيار لنا، ككورد، أن نُعيد صياغة وجودنا بروح الأديان التي سكنت أرضنا، لا بإيديولوجيات الغزاة الذين مرّوا واندثروا، ومثلهم الأنظمة العنصرية، وبقيت كوردستان.
كأحد أركان القوة الحضارية، وفي مواجهة محاولات تشويه التاريخ، وبها يصبح الدفاع عن هذا التنوع ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة سياسية وأخلاقية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/7/2025م