الأزمة الكردية في سوريا: بين التعقيدات البنيوية ، والحلول السطحية ؟

اكرم حسين

تتكرّر الدعوات إلى تحميل بعض القيادات الكردية في سوريا مسؤولية الركود السياسي الذي تعانيه الحركة القومية الكردية، ويتردّد على نحو مستمر أن استقالة هذا المسؤول أو ابتعاد ذاك عن المشهد قد يفتح باباً أمام تجاوز الأزمة. غير أن هذا الطرح، على وجاهة ظاهره، يختزل إشكالية بنيوية عميقة في تمظهرات شخصية، ويتجاهل ما هو أكثر جوهرية: غياب الشروط الموضوعية الإقليمية والدولية لحل عادل وشامل للقضية الكردية في سوريا والمنطقة.

تهدف هذه المقاربة إلى تحليل السياق البنيوي الذي يُنتج الأزمة الكردية، ويُقيّد إمكانيات تطورها، مع مقاربة العلاقة المعقدة بين الداخل الكردي والإطارين الإقليمي والدولي، وتحديداً البعد التركي والدور الذي يلعبه حزب العمال الكردستاني في صياغة المشهد.

فالأزمة الكردية في سوريا ليست ناتجة عن عجز فردي أو خلل قيادي بقدر ما هي نتاج شبكة من التوازنات المختلّة التي تعكس بنية الدولة السورية من جهة، والتقاطعات الإقليمية والدولية من جهة أخرى. فالسياسات ليست مجرّد اختيارات شخصية، بل انعكاس لموازين قوى وشروط موضوعية تتحكم في مسار الفعل السياسي وحدوده.

إن اختزال الإشكال في استقالات أو تغييرات تنظيمية ضمن الحركة الكردية هو تبسيط يتجاهل جوهر الأزمة الحقيقي، المتمثل في العلاقة غير المتكافئة بين الدولة المركزية والمكوّن الكردي، وغياب أي اعتراف دستوري أو ضمانات وطنية فعلية تكرّس مبدأ الشراكة والمواطنة المتساوية.

في المقابل، لا يمكن عزل الأزمة الكردية في سوريا عن سياقها الكردي الأوسع. فالقضية الكردية موزعة على أربع دول رئيسية (إيران، تركيا، العراق، وسوريا)، ما جعل منها ضحية دائمة لتضارب السياسات الإقليمية وتقاطعات الاستراتيجيات الدولية ، وفي الحالة السورية، يتعذر تجاوز أي سقف تفاوضي حقيقي دون مراعاة الفيتو التركي، الذي لا يزال يشكّل حاجزاً أمام أي اعتراف سياسي بالكرد، حتى ضمن أطر سورية خالصة. فأنقرة، وهي فاعل مركزي في الإقليم، تنظر إلى أي تطور في الحالة الكردية السورية من خلال عدسة أمنية وجيوسياسية، تضع في اعتبارها امتداداته على أمنها القومي الداخلي، وتربط تطور أي كيان كردي، حتى وإن كان مدنياً وسلمياً، بخطر “تفكيك” النموذج القومي التركي.

هنا تدخل العلاقة المعقّدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني كعنصر حاسم في تأزيم المشهد. فتركيا، ومنذ أكثر من أربعة عقود، اختزلت القضية الكردية برمّتها في صراعها مع هذا الحزب، ما دفعها إلى اعتماد مقاربة أمنية بحتة تجاه كل تعبير كردي، بغض النظر عن طبيعته أو انتمائه. وقد أسهم هذا المنظور في تعميم الاشتباك السياسي والعسكري ، وحرمان القوى الكردية في سوريا من فرص سياسية واقعية لتقديم نموذج مغاير، حتى عندما تبنّت خطاباً معتدلاً وتشاركياً.

في هذا السياق، فإن أي تحول استراتيجي في بنية الحزب ووظيفته، مثل التخلي عن العمل المسلح والانخراط في نضال ديمقراطي محلي الطابع، من شأنه أن يخلق صدمة إيجابية في العقل السياسي التركي، وقد يُعيد فتح الباب أمام مراجعة أكثر براغماتية لموقف أنقرة تجاه الكرد عموماً.

وبالتالي ، فإن تجاوز الأزمة الكردية لا يمكن أن يتحقق من خلال تدوير النخب أو استبدال القيادات، بل يتطلب بناء مشروع وطني كردي حديث، متحرر من الإيديولوجيات الجامدة والانغلاق السياسي، بحيث يستند إلى واقعية استراتيجية، ويأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى، ويشتبك مع الحقل الوطني السوري على أساس من الشراكة، ويعيد تشكيل علاقته مع الأطراف الدولية على قاعدة المصلحة المشتركة، لا التبعية أو التوظيف.

لا بد لهذا المشروع من أن يُراكم خطاباً جديداً، يدمج بين الهوية القومية والانفتاح على فضاء الدولة الديمقراطية، ويقدّم تصوراً للمشاركة الكردية في إعادة بناء سوريا كدولة لا تنفي التعدد، بل تؤسس عليه.

إن اختزال أسباب الركود الكردي السوري في الأشخاص من شأنه أن يُنتج خطاباً تبريرياً سطحياً يتجاهل طبيعة الأزمة المركبة. المطلوب هو وعي بنيوي يُدرك أن الشروط الإقليمية والدولية، ولا سيما موقف تركيا، يلعب دوراً محورياً في تحديد سقف الحركة السياسية الكردية، وأن تحوّلات الداخل الكردي—مهما كانت جريئة—لن تكتمل دون مقاربة إقليمية جديدة تعيد تعريف العلاقة بين الكرد والدول القائمة، من منظور الحقوق لا الأمن.

كما أن تحوّل حزب العمال الكردستاني إلى العمل الديمقراطي المحلي، وتفكيك طبيعته العابرة للحدود، من شأنه أن يُساهم في تخفيف القلق التركي ويفتح أفقاً سياسياً أمام حلول أكثر توازناً.

أما من الناحية السورية، فإن أي اختراق حقيقي لن يتم إلا في ظل مسار سياسي انتقالي، يقرّ بالشراكة والمواطنة المتساوية، ويعيد صوغ مؤسسات الدولة على أسس غير إقصائية. هكذا فقط يمكن للأزمة أن تُحل، عبر إعادة بناء الأسس الفكرية والبرنامجية للمشروع الكردي.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…