السيد أحمد الشرع من الجائزة الكبرى إلى مأزق الدم خياران خطيران ووطن وشعب على حافة الهاوية أو التعافي

إبراهيم اليوسف

لم يكن خروج الطاغية من القصر الرئاسي في دمشق نهايةً لمرحلة الاستبداد، بل بدايةً لانزلاق أعمق في متاهةٍ اختلط فيها الدم بالرهان، وتحوّلت فيها الجائزة الكبرى التي تلقّفها السيد أحمد الشرع – في مصادفةٍ خرافيةٍ لا تُصدَّق – إلى عبءٍ ثقيلٍ تنوء به السلطة المؤقتة، ويضيق به صدر السوريين، موالين ورافضين، في آنٍ واحد. إذ إن لحظة انهيار نظام آل الأسد، التي كان يُفترض بها أن تعلن ختام سردية البعث والبطش والظلال الأمنية الممتدة من عام 1970 حتى سقوطه في 2014، تم الالتفاف عليها باتفاقٍ دولي غير مكتوب، بين من ادّعوا حرصاً على سوريا، ومن سعَوا لتفكيكها تحت لافتة إنقاذها.

لقد حصل الشرع على مباركةٍ إسعافيةٍ مستعجلة من أكثر من طرف، حيث تسابقت دول عربية وإسلامية وغربية إلى تقديمه بوصفه حلاً وسطاً، واعتباره من قِبل بعضها مجسداً لتطلعاتها أو امتداداً لخطابها، لا منطلقاً من إرادة السوريين، ولا معبّراً عنهم. ولهذا، وجد الرجل نفسه أمام عرضٍ تاريخي أشبه بجائزةٍ خرافيةٍ لا تُعوَّض، ما فرض عليه أن يوافق على كل ما يُملى عليه، حفاظاً على كرسيٍّ وُضع تحت أضواء الكاميرات قبل أن يُحاط بموافقة الداخل. إذ إن من عوّل عليه لم يكن ينتظر منه مشروعاً وطنياً، بل تصريف أزمة، أو بالأحرى شراء وقتٍ إضافي لخرائط مصالح دولية متشابكة، إلا أن مجريات الأمور منذ وصول الميليشيات إلى السلطة خذلت كل المستبشرين بها: سورياً، وإقليمياً، ودولياً، ما عدا تركيا التي لا يهمّها من الأمر إلا إبادة الكرد، حتى وإن كان ثمن ذلك السوريين وسوريا وحتى العالم كله.

الشرع نفسه، وقد كان لسنواتٍ محسوباً على الجهاد السياسي، انقلب على جزءٍ من جذوره حين انفتح على القوى التي لا تؤمن أصلاً بالخلفية التي جاء منها. حيث وجد نفسه محاطاً بقوى فصائلية عسكرية، على رأسها تشكيلات آزرت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وهي قوى لم يكن خيارها نابعاً من تفويض شعبي، بل من تعاقد غير مكتمل بين أجنحة الخارج ومشغّلي الميليشيات. هكذا تم استبعاد الشعب السوري الذي ابتهج بسقوط بشار الأسد من حسابات المرحلة، وبدأ تسويق مقولة “الشرع في مهمة تسليم السلطة لمن يستحقها”، من دون أن يتضح مَن هم هؤلاء المستحقون، ولا على أي أرضية سيُبنى الانتقال.

من هنا فإن ما تلا مجازر الساحل والسويداء كشف بصورةٍ دامغة أن لا فرق بين تكوين و “طينة” شخصيتي الرئيس السابق واللاحق في طبيعة القرار المتخذ من قبل كل منهما، وإنما في أسلوب كل منهما، والتمثيل البارع الذي يتمتع به الشرع في أداء أدوار متناقضة، وإظهاره عكس ما يضمر، على نحو أنجح. إذ إن الشرع بدا أكثر حنكةً، وأقل اندفاعاً، لكنه حسم الأمور بلغة الدم في أشهر، أكثر مما فعل الأسد في عشر سنوات. إذ جرى استنساخ آلة البطش بأسماءٍ وشعارات مغايرة، لكن بفعلٍ مشابه.

الذين التفوا حوله كانوا من بيئاتٍ مسحوقة، مناطق جُوِّعت لعقود، وقُطعت عن المركز، هم من يعول عليهم نظام دمشق الجديد ووعاظ الرئاسة الجدد أو القدامى الجدد. إذ إن ما جرى في ريف الرقة وديرالزور والجزيرة لم يكن إلا تجلياً لانفجارٍ تراكمي، مع معرفة أن الجزيرة كانت أكثرها تظلماً، ضمن اللوحة المهمّشة ذاتها. انفجارٌ عبّرت عنه عناصر التحقت بالميليشيات بدافع الحاجة لا القناعة، بينما تسللت إلى مواقع النفوذ وجوهٌ أخرى مسكونة بهوس السيطرة والسلاح. ولا يمكن إنكار وجود “جهاديين” محليين وأجانب، قدموا بلباس داعش ولغته وممارساته، وتحوّلوا سريعاً إلى أداةٍ لفرض النموذج الأحادي، بدءاً من قطع الرؤوس، ومروراً بتدمير التماثيل، واغتيال البهجة في النوادي والمقاهي، وهذا ما وسّع دائرة الموبوئين بفيروس الداعشية من لدن قتلةٍ استساغوا هدر الدم بوحشيةٍ قبيحة.

بدا هذا المسار كابوساً مضاداً لما حلم به السوريون. فبدل أن يُعاد بناء بلدهم على قواعد المواطنة، تم ملء المشهد بمؤتمراتٍ شكلية، ووزاراتٍ مفرغة من المعنى، وحكامٍ محليين يفتقرون إلى أدنى درجات الشرعية. إذ استُنسخت السلطة السابقة بملامح دينيةٍ متشددة، وأُفرغت ساحات الثورة من مدنييها، لتُسلَّم إلى خطاب لا يعترف إلا بالغلبة، والتلويح بتهديد العنف، وإعادة تثقيب السفينة في بحرٍ من الدماء.

كما أن الأخطر تمثّل في تسويق حالةٍ فكرية تستعيد مظلوميةً سنية، تمتزج برغبةٍ في الانتقام لا في التغيير. إذ بدأ بعض مَن تزعّموا هذه المرحلة يتحدثون بمنطق “الرد على نصف قرنٍ من التهميش والإذلال”، وكأن مليون شهيد سقطوا لإنتاج نسخةٍ محسّنة من الدولة الأمنية، ولكن بنكهة طائفية أخرى. هذا الخطاب لم يأتِ من فراغ، بل خرج من أوساطٍ مهمّشة عشائريةٍ وريفية، طالما استخدمتها الأنظمة المتعاقبة كحطبٍ في معاركها، أو كاحتياطيٍّ تقنيٍّ للسلطة، عبر استرضاء وجهاء وتهميش آخرين، وإدخال فلاحين و”عمال” إلى واجهات لم تكن يوماً لصالحهم، بل لضرب العشيرة بعضها ببعض، والإجهاز على الجانب الأكثر إضاءة من تاريخها التعايشي والوطني والإنساني. حيث كانت الدكتاتوريات تستثمر الهامش دون أن تمنحه دوراً حقيقياً، ما خلا اعتماده على مرتزقةٍ متوهمين بالسلطة والمال، وقد آذوا السوريين، وكان الكرد على رأس قائمة المظلومين من قبلهم جميعاً. والأدهى أن ريفاً مثل الجزيرة، الأكثر تهميشاً في المعادلة السورية، لم يكن خارج هذه اللعبة، بل صار وقوداً لخطابٍ بدائيٍّ جرى تعويمه فجأةً على أنه البديل، بعد تغذيته بثقافة الكراهية، وبعد ما ألحقه حزب العمال الكردستاني من أذى بحق صورة الكرد، وإهمال المنطقة وتجويعها، وكان عوام الكرد من بين الأكثر تضرراً.

بدهيٌّ أنه في عمق هذه المعادلة، تجلّى أن الانقسام الحقيقي لم يعد بين طوائف أو أديان، بل بين طائفة “البعث” – بمَن فيها من علويين وسنّة ودروز ومسيحيين ومرشديين وإسماعيليين إلخ – وطائفة الأغلبية الصامتة المطحونة التي لم تعرف إلا القمع والتهميش. إذ إن آلة السلطة امتدت عبر رموزٍ من مختلف المكونات، لكن اليد الطولى ظلت للعلويين بوصفهم الواجهة العلنية، دون أن يعني ذلك غياب بقية الشركاء في القرار أو الامتيازات.

السيد الشرع، وقد التقط لحظة شغور، لم يقدّم برنامجاً إنقاذياً بقدر ما أصبح وجهاً لصفقة. إذ نُصّب رمزاً وسط الهتاف والتكبير، وتحول إلى واجهةٍ لنظامٍ مؤقت لا يختلف جوهرياً عن الذي سبقه. ذلك أن بناء سلطة على رعب داعش لا يفضي إلى دولة، بل إلى قنبلةٍ موقوتة. والفيديوهات المسربة، والمشاهد الصادمة، كانت كفيلةً بإشعار السوري المحايد بأنه عاد إلى حقبةٍ أبشع، لا لأنها تقتل فحسب، بل لأنها تسوغ القتل بنصوصٍ وتعاليم وسياقاتٍ تستبيح كل اختلاف.

إذ إن التحالف الخليجي–التركي، وبخاصة الدور التركي، لم يكن بريئاً. فأنقرة دعمت الشرع في العلن لأمرين: أولاً، استكمال مخططها في اجتثاث الطرف الكردي، وثانياً، ضمان وصايتها على النظام المؤقت. غير أن المشروع لم يكن متسقاً مع رؤى الرياض أو القاهرة أو حتى الرباط. تلك العواصم التي تخلّت عن السوريين، كلٌّ منها في محطة، وأعادت علاقاتها مع الأسد الابن بعد قتل مليون سوري، لكنه لم يوافق على عودة العلاقات مع تركيا، رغم أن موقفه استدعى استعجال تركيا للإطاحة به. حيث رفض بشار استقبال أنقرة مجدداً، في حين قبل بجميع هؤلاء، ما يكشف بوضوح شكل الصدع، وانقلابات المواقف من السوريين في مسارات ما بعد الأسد.

من هنا نرى أن ما يُعرف بـ “الرباط الإبراهيمي” أو المشروع البديل، قد وضع خريطةً مغايرة للآمال التركية، رغم ادعائها التماهي مع جميع الأطراف لأجل مشروعها، ولو على حساب زوال جميعهم، وربما لهذا بدأت بعض الأطراف الإقليمية تتحدث عن “التوقيت المناسب” لتصفية الحسابات العالقة، ومنها التهديدات، والتهيئة، وتحضير الساحة لإعداد أدوات مذبحةٍ أكبر ضد الكرد، في مشهدٍ يعيد إنتاج وحشيةٍ لا تُنهي الأزمة بل تعيد تدويرها، وهو ما لا يخدم مصلحة سوريا وعربها قبل كردها، والشركاء الآخرين، وحتى أنظمة الدول العربية الأكثر عقلانيةً وحرصاً على سوريا وأهلها، في هذه المرحلة الأكثر خطورة، بالنسبة إلى سوريا التي تبدو حرب الأربع عشرة سنة جهاداً أصغر، بحسب الحديث النبوي الشريف، قياساً إلى الحرب الأكبر التي يتنادى متعطشو الدم، الرافضون للآخر، لإيقادها، عساهم يروون صحراء أحقادهم، متنكرين لتاريخٍ مديدٍ بين الكرد والعرب، محققين مكاسب ما، زاعمين أنهم الأقرب للسلطة المؤقتة، وقد كان هذا الأنموذج – الميكروب أو الفيروس الضئيل المؤثر – الأقرب للأنظمة المتعاقبة كلها، وكانوا مستعدين أن يكونوا مع أي بديل للأسد علماني يتم الاتفاق عليه دولياً، ليحاربوا ميليشيات اليوم التي ارتدوا أقنعتهم، متماهين معها.

تأسيساً على ذلك، يعود الحديث عن القرار الدولي 2254، وقد صار هو الملاذ الأخير أمام المجتمع الدولي لتثبيت وقف النزف، وتدوير السلطة عبر واجهةٍ مقبولة دولياً. فإن وافق الشرع على الشروط غير المعلنة للمجتمع الدولي، وعلى رأسها التخلي عن “بطانة” الميليشيات، فذلك سيمنحه وقتاً إضافياً. أما إذا استمر في التعويل على دروعه المحلية المتطرفة، فإنه سيُدفع إلى زاويةٍ لن يخرج منها إلا بتفكيك منظومته، أو بدفع ثمنها.

هكذا فعل كثيرون من القادة المؤثرين في التاريخ الحديث: جمال عبد الناصر تخلّى عن بعض مَن أوصلوه إلى الحكم حفاظاً على وحدة مشروعه، وديغول فعل الشيء عينه عندما أنهى نظام الفيشيين لصالح فرنسا جديدة. والشرع ليس استثناء إن اختار البلد، رغم أن مشروعه كان في الأصل – دكانة صغيرة – لا مشروعاً وطنياً. إذ إن الإصرار على تصفية الخصوم لا يخلق شرعية، وإن التمادي في صناعة العدو الداخلي لا يفضي إلى سلام، بل إلى لعنة. حيث صار الدم أداةً للتفاوض، والتعفيش ثقافة، والحقد سلاحاً يومياً، وها هي سوريا تتحول تدريجياً إلى ساحةٍ لا تصلح إلا لإعادة دفن السوريين من جديد.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…