د. محمود عباس
إذا تمكّنت المكوّنات الوطنية الأصيلة في سوريا، من الكورد والدروز والعلويين والمسيحيين، من فرض نظام فيدرالي لا مركزي، عادل ومتوازن، يعيد توزيع السلطة والثروة، ويكسر احتكار الدولة من قبل طغمة أمنية وطائفية واحدة، فإن أول من سيصاب بالهستيريا السياسية ليست دمشق وحدها، بل أنقرة أيضًا، ستتلقى تركيا هذا التحوّل كصفعة وجودية، تهزّ جدران مشروعها العثماني الجديد، وتهدد بنيتها القومية الأحادية التي قامت على الإنكار والتهميش والعنف.
لن تقف أنقرة حينها مكتوفة اليدين، فهي التي اعتادت أن تستخدم شعار “حماية أمنها القومي” كمطرقة للتدخل في كلّ الجغرافيا المحيطة بها. وستفعلها مجددًا، لا على استحياء، بل بجنون استراتيجي، إذ ستُطلق يد جيشها تارة، وتعيد إحياء تنظيم داعش تارة أخرى، حتى ولو تحت مسميات جديدة، أو عبر واجهات مختلفة، قد تكون أبشع من “هيئة تحرير الشام”، أو أشدّ انحطاطًا من فصائل اللصوص المسماة “العمشات” و”الحمزات”، أولئك الذين انكشفت حقيقتهم أخيرًا حين طُردوا من السويداء، فتبين أنهم لم يكونوا ثوارًا ولا مجاهدين، بل مجرد “سارقي بطّ” تلطخوا بعار النهب والتكفير.
تركيا، في لحظة انتكاسها، لن تتردد في إعادة تدوير أدوات الخراب، وستضخّ الحياة من جديد في خلايا الظلام، وتستنسخ من الإرهاب وجوهًا أكثر سفالة، تدفع بها إلى الداخل السوري لمنع ولادة أي مشروع ديمقراطي، لا لأنه يهدد أمنها، بل لأنه يفضح عري نموذجها، ويجعل من فيدرالية سوريا مرآة مرعبة تعكس للشعب التركي ما يمكن أن يكون عليه وطن تعددي، لا يُدار بالعسكر ولا تُخنق فيه القوميات.
فالمسألة لا تتعلق بسوريا فقط، بل بميزان الشرق الأوسط كله، مشروع الفيدرالية الذي تحمله هذه المكونات السورية ليس خطرًا على الدول، بل على الأنظمة التي بنت سلطتها على القمع، وأولها تركيا، لذا، فإن أي خطوة نحو العدالة والشراكة، ستُقابل بمحاولات جادة لإعادة البلاد إلى الفوضى، وتصدير مزيد من الوحشية تحت عباءات الدين أو رايات الثورة المزوّرة.
إن انتصار الفيدرالية لن يكون حدثًا محليًا، بل زلزالًا سياسيًا تتردّد أصداؤه من دمشق إلى أنقرة، من الرقة إلى إسطنبول، ومن السويداء إلى أقصى جبال زاغروس، ومن يدرك عمق هذا التحوّل، يعرف أن تركيا ستدفع بكل ما تملك، إعلاميًا، سياسيًا، وعسكريًا، لإجهاضه، ولو كلّفها ذلك خلق ألف داعش جديد بأسماء مستعارة.
والصراع الجاري اليوم بين تركيا وإسرائيل لا يتمحور حول سوريا فحسب، ولا يقتصر على مسألة الدفاع عن المكوّن الموحدين الدروز أو دعم حكومة الجولاني، بل يتجاوز ذلك إلى التنافس العميق على رسم ملامح النظام السوري القادم، وتحديد هوية الشرق الأوسط الجديد، أهو شرق تعددي ديمقراطي لا مركزي، أم شرق خاضع لمحاور الهيمنة والقمع بثياب دينية أو قومية.
في النهاية، ستنجح إسرائيل، لا لأنها تملك القوة فحسب، بل لأنها تمثل مشروعًا أمريكيًا ممتدًا، وواجهة مقبولة لمعظم الدول الكبرى الساعية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مصالحها. فالمعادلة أبعد من صراع حدود، إنها إعادة رسم للهوية الجيوسياسية للمنطقة، وإسرائيل ليست إلا الأداة الأذكى في تنفيذ هذا التحوّل المدروس.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
22/7/2025