دلدار بدرخان
في مقال سابق كتبته قبل أسابيع، تطرقت فيه إلى أن رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع كان “رجل الضرورة” لقيادة المرحلة الانتقالية، فقد وقع عليه الاختيار لسببين رئيسيين:
الأول هو أنه يُحسب على الطائفة العربية السنية، والثاني أنه يقود تنظيماً عسكرياً ذو هيكل مؤسساتي “بغض النظر عن خلفيته العقائدية أو الأيديولوجية”، إلا أنه كان مسيطراً على تنظيمه سيطرة شبه كاملة، وكان هذا التنظيم يحمل هيكلاً هرمياً، أي أنه يأخذ تعليماته نزولاً من الأعلى إلى الأسفل.
وفي المقابل كانت باقي الفصائل والهياكل العسكرية المنضوية تحت ما يعرف بالجيش الوطني تفتقر إلى الطابع المؤسساتي، فقد كانت أقرب إلى ميليشيات مسلحة مفككة، فكان لكل فصيل جهازه الأمني الخاص به، وسجونه، واقتصاديته، وكان أفراده يتصرفون غالباً بلا انضباط أو مساءلة، ولم يكن يحكمهم إلا قانون الغاب.
وزد عليه أن هذه الفصائل كانت متناحرة فيما بينها، وضعيفة وهشة، وسلوكها غير منضبط، أشبه إلى سلوك قطاع الطرق والعصابات والتنظيمات المافيوية.
ولأن قسد لم تكن تملك حاضنة عربية سنية في البلاد، فوقع الاختيار على هيئة تحرير الشام، رغم أن قسد كانت ولا تزال تمتلك قدرات كبيرة في الانضباط والقوة والعمل المؤسساتي تفوق مثيلاتها من التنظيمات التي تنشط على الأرض السورية، بغض النظر إن كنا مع سياساتها أو ضدها.
ولا أذيعكم سراً أنني كنت أتوقع أن من سيستلم مهمة إسقاط نظام الأسد هي قوات سوريا الديمقراطية، وكان في اعتقادي أن التحالف الدولي لا يمكن أن يستثمر في كيان عسكري بحجم قوات قسد طيلة اثنتي عشرة سنة، ويمدها بالعدة والعتاد والتمويل اللوجستي فقط من أجل محاربة داعش، وإنما كان في اعتقادي أن له هدفاً آخر، وهو مهمة إسقاط النظام، ومن ثم يكون أول من يبدأ بتشكيل النواة الرئيسية لبناء الدولة السورية الجديدة بعد إسقاط النظام.
إلا أن المشكلة الوحيدة التي كانت تعترض قوات قسد هي أنها لم تكن تنحدر من خلفية عقائدية سنية عربية كما الآخرين، ولم يكن لها حاضنة بين الأغلبية العربية السنية، ولم تكن مقبولة حتى بالأمس القريب من تركيا، فتم توكيل المهمة لهيئة تحرير الشام لاستلام دفة المرحلة.
وتحدثنا أيضاً أن الدول رأت أنه لا يمكن لأحد ضبط ممارسات الفصائل المتناحرة بعد سقوط النظام البائد غير هيئة تحرير الشام، وبالرغم من هذا الاعتقاد، إلا أن رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع لم ينجح في ضبطها بشكل كامل، وتجلى ذلك في أحداث الساحل وصحنايا، والآن نراه في السويداء.
ولربما يعود السبب الرئيسي خلف هذا الإخفاق إلى التوازنات الدولية على الأرض، فكما يعلم الجميع أن كل فصيل له امتداداته الخارجية، ولا تزال تلك الفصائل تتحرك بإيعاز من مشغليها، ولذلك نرى أن السلطة الانتقالية فشلت إلى الآن في مهمة ضبط تحركات هذه الفصائل، ولم تستطع السيطرة عليها بالكامل.
واليوم وبعد كل ما جرى، لا يسعنا إلا أن نقر بأن المرحلة الانتقالية تتخبط بين مشروع بلا حاضنة، وفصائل بلا ضوابط، وسلطة بلا سلطة، فالواقع يعيد إنتاج أزماته، وكل محاولة للإصلاح تولد مشوهة تحت وطأة الاصطفاف الطائفي والتوازنات الدولية.
ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً لم يعد من يقود المرحلة، وإنما من يملك القدرة على إنقاذ ما تبقى من الدولة؟
فما بين مطرقة الفوضى وسندان التدخلات، تبدو البلاد معلقة على خيط رفيع لا يُمسكه إلا من يفكر بوطن لا بمنطقة، ويؤمن بدولة لا بكيان، ويضع مصلحة الشعب فوق حسابات المحاور وأوهام السيطرة.