بوتان زيباري
في جبال السويداء حيث تُخفي الصخور حكايات القرون، وتنام الأصوات بين طيات الرياح، تُكتب اليوم فصول جديدة من ملحمة الدم والنار، لا تختلف كثيراً عن تلك التي رُسمت بحبر الحنين والانتماء في كتب التاريخ. فالزمن يعيد نفسه، لكن بوجوهٍ مختلفة، وأدواتٍ أكثر قتلاً. وسط هذا المشهد المعتم، تظهر السويداء كمفترق طرقٍ بين خيارين: إما أن تكون وحدةً حقيقيةً تُبنى على العدالة والمشاركة، أو أن تكون ساحةً للصراعات التي تُغذّيها المؤمرات وتُزيّنها المصالح. والمؤلم أن الدم يُراق باسم الوحدة، بينما يُنسى أن الوحدة الحقيقية لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع في القلوب بالمساواة.
في هذه الأرض التي عرفت الاعتدال والصبر، اندلعت الاشتباكات بين البدوٍ والمسلّحين من الطائفة الدرزية، فكانت صرخةً مدوّيةً من قلب التاريخ، تذكّر بأن التوترات لم تُحل، بل تراكمت. فدماء سقطت، وبيوتٌ هُدمت، وعائلاتٌ نزحت، وآلامٌ توارت خلف الإحصائيات. وحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 87 ألف شخص نزحوا، وسقط مئات الضحايا، بينهم نساء وأطفال، فيما لم تعد الثلاجات في المستشفيات تكفي لاستقبال الجثث، وغدت الشوارع مساجد للرحمة. هذا المشهد البشع لم يكن مجرد اشتباك عسكري، بل هو انعكاس لصراعٍ أعمق، يمتد جذوره إلى جرحٍ قديم لم يندمل، وسياسةٍ تُدار بمنطق القوة لا بالحكمة.
دمشق، التي أرسلت قواتها بحجة استعادة الاستقرار، ظنت أنها تملك الضوء الأخضر من واشنطن، مستندةً إلى تصريحات مبعوثها توماس باراك التي دعت إلى “مدرسة الدولة الموحّدة”، واعتبرت أن المفاوضات الأمنية في باكو تُعدّ ضمانةً لتحركها. لكن السياسة ليست بريئة، والحسابات الدولية ليست بسيطة، فجاء الرد الإسرائيلي سريعاً وقاسياً، عبر ضربات جوية استهدفت مواقع للجيش السوري، وكأنها تقول: “لا تعبثوا بدم الدروز، فهناك خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها”. فإسرائيل، التي حاولت الصمت في البداية حفاظاً على مسار السلام الذي تروّج له الإدارة الأمريكية، انقلبت فجأةً تحت ضغوط داخلية، خاصة من الدروز في الداخل الإسرائيلي، فحوّلت القصف إلى رسالة سياسية واضحة: لا مجال لفرض السيطرة على الجنوب السوري دون موافقة صريحة.
لكن الأسئلة الكبرى ما زالت تبحث عن إجابات: ماذا يعني أن تُبنى دولة باسم الوحدة، ثم تُستخدم تلك الوحدة سلاحاً لقمع المكونات الأخرى؟ وهل الوحدة أن تُهمَش الأقليات وتُهمَل حقوقها، أم أن تكون لكل مكون مكانة وصوت في القرار؟ فالوحدة الحقيقية ليست في توحيد السلاح فقط، بل في توحيد القلوب، وفي إعطاء كل طرف حقه في المشاركة، دون تمييز طائفي أو عرقي. والمؤلم أن دمشق، بدل أن تُصغي إلى صوت الداخل السوري، فضّلت أن تُعطي أذنها للدعم الخارجي، فازدادت الحالة تعقيداً، وتوسّعت الفجوة بين المركز والهامش، وتحولت السويداء إلى مسرحٍ لصراعاتٍ أكبر من حجمها الجغرافي.
السياسة التي تُدار بمنطق القوة تُنتج دوماً الانقسام، وتُغذي الشكوك. والجيش الذي دخل السويداء بحجة الحفاظ على وحدة الدولة، أعاد إنتاج الجروح القديمة، وخلط الأوراق بطريقةٍ عميقة، فكان أن انسحب البدو بعد اتفاقٍ، لكنهم أبقوا على التهديد: “سنردّ بقوة إن انتهك”، وهو ما يُشير إلى أن المسألة لم تُحسم، بل تأجلت. فالحرب هنا ليست فقط بين جيشٍ وقبيلة، بل بين رؤيتين للدولة: رؤية تُريد فرض الوحدة من فوق، ورؤية تُطالب بمشاركة حقيقية من تحت. وفي هذا الصراع، يبقى الضحية هو الإنسان السوري، الذي يُقتَل مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بصمت المؤسسات والدول.
التأمل الفلسفي هنا يأخذنا إلى سؤالٍ أعمق: ما معنى أن تُبنى دولة باسم “النظام والانتظام”، بينما أول ما تُدمّره هو الوحدة؟ إن الدولة ليست مجرد مؤسسات وحدود، بل هي كيانٌ روحيّ يتكوّن من التنوع والاختلاف، وتجربة التعايش بين المكونات. وعندما تُختزل الدولة في ثنائية “المركز أو الفوضى”، يُفقد البُعد الإنساني، ويُصبح القانون أداةً للقمع، والوحدة شعاراً للهيمنة. وهنا تظهر الحاجة إلى نموذجٍ مختلف، يُعيد النظر في مفهوم الدولة، ويُعطي لكل طائفة وقومية حقها في المشاركة، دون أن يُفهم ذلك على أنه انفصال أو تقسيم، بل على أنه اعترافٌ بالواقع، واحترامٌ لحقوق الإنسان.
ومن هنا، يتقاطع الملف الدرزي مع الحلم الكوردي، في رؤيةٍ ترى أن الوحدة لا تعني القمع، بل تعني التعدّد والمشاركة. فالكورد، مثل الدروز، يطالبون بحقهم في أن يكونوا جزءاً من الدولة، لا أن يكونوا رقعةً تُحكَم بالقوة وتُهمَل في القرارات. والدولة الحقيقية هي التي تُعطي كل مكون حقه، وتحترم التنوع، وتعترف بأن الهوية ليست تهديداً، بل غنى. والوحدة التي تُبنى على القمع، هي وحدةٌ هشّة، ستنهار أول ما تهبّ عليها الرياح.
الكلام هنا ليس فقط عن السياسة، بل عن الإنسان، وعن الروح التي تربط بين الجبال والهوية، وبين الدم والوطن. والأدب الشعبي، في هتافه البسيط “بتراب الواحد فينا دماً”، يُعبّر عن حلمٍ لا يزال بعيد المنال، وهو حلم التوازن، حيث لا يُستخدم الدم وسيلةً للقرار، بل يكون الدافع لبناء عدالةٍ حقيقية. فالوحدة ليست سجناً، ولا هي سلاحاً يُستخدم ضد الأقليات، بل هي مساحةٌ من الحرية المشتركة، حيث يُمكن لكل مكون أن يتنفّس، وأن يُعبّر عن نفسه، دون خوفٍ من أن يُمحى أو يُهمَش.
وفي الختام، فإن السويداء ليست مجرد بقعة جغرافية، بل هي مرآةٌ تعكس واقع سوريا بأكملها، وجدلية الصراع بين الوحدة والانفصال، والقوة والعدالة، والمركز والهامش. فهل تُسمَع أصوات المكوّنات قبل أن تُسكب دماء جديدة؟ وهل تفهم دمشق أن للدروز والعلويين والكورد والبقية وجداناً متكاملاً لا يُختزل في ولاء للمركز؟ وهل يدرك الأميركي والإسرائيلي أن الوحدة التي لا تُبنى على العدالة، ما هي إلا قصرٌ من رملٍ يهوي مع أول نسمة من الريح؟
الجواب لا يكمن في القوة، ولا في التدخلات، بل في الحكمة، وفي الإصغاء إلى صوت الضمير، وفي إعادة النظر في مفهوم الدولة، لتكون وطناً للجميع، لا سجناً للبعض. والكتابة، والأدب، والنضال السياسي، هي السبيل الوحيد لبناء جذور السلام، وليس سلاماً مزيفاً يُغطّى بالكلمات، بل سلاماً حقيقياً يُبنى على الحقيقة، والمساواة، والاحترام المتبادل.
السويد
20.07.2025