عبد الجابر حبيب
من المؤلم والمضحك في آنٍ معاً أن نشاهد على شاشات الإعلام مشهداً يبدو للوهلة الأولى احترافياً ووطنياً: الجيش السوري ينسحب من محافظة السويداء بعد “تمشيطها من الخارجين عن القانون”. عبارة رسمية تحمل في ظاهرها أمناً و استقراراً، لكنها تخفي في باطنها قهراً وإهانةً، وتساؤلات موجعة حول من هو الخارج حقاً عن القانون؟ هل هو المواطن الذي يطالب بكرامته وأمنه؟ أم تلك الجماعات التي أطلق عليها البدو، أم الجندي الذي يحمل سلاح الدولة ويمتهن كرامة الناس؟
من الخارج عن القانون؟
في السويداء، كما في كل الجغرافيا السورية، لم تعد الأوصاف الرسمية تطابق الواقع. فحين تصف الدولة من طالب بحقوقه أو دافع عن أهله بأنه “خارج عن القانون”، بينما تتغاضى عن الجرائم والانتهاكات، فإنها تُعيد إنتاج منطق الاستبداد نفسه الذي خرج السوريون ضده قبل أربعة عشر عاماً.
أبناء السويداء، كغيرهم من السوريين، يعرفون جيداً من انتهك القانون: هو من داهم البيوت الآمنة، وأهان الشيوخ، وركل رموزهم الوطنية، وحرق ممتلكاتهم. المواطن لا يرى الخارج عن القانون في أبناء محافظته، بل في الذين جاؤوا “ليؤمنوا المحافظة” فحولوا حياتها إلى مهانة جماعية. رغم ارتكاب البدو الجرائم لكنهم لم يتفاخروا بجرائمهم ضد الدروز مثلما فعل الجنود في الجيش. يعني هل ماقام الجنود كان بمباركة وزارة الدفاع السورية؟
ذاكرة الشبيحة التي لم تمت
الذاكرة السورية مثقلة بالدم والقهر، ولم ينسَ السوريون بعد ما ارتكبته شبيحة النظام السابق من فظائع باسم “الأمن والاستقرار”. فمن قتل، واعتقل، وعذب، واختطف، ثم نسب الجرائم إلى “تصرفات فردية”، أو اتهم جماعات إرهابية وهمية، لم يُحاسب يوماً. واليوم، يبدو أن بعض من تسلم السلطة في المرحلة الانتقالية يسير على الدرب نفسه، في تجاهل فاضح للعدالة والشفافية، بل وحتى للمنطق السياسي.
الشعب السوري لم يعد يحتمل تكرار النمط نفسه من الإجرام ثم التبرير. لقد سئم من الأسطوانة ذاتها: “تحقيقات جارية”، “لجنة تقصٍّ”، “فيديوهات مفبركة”، “فصائل غير منضبطة”، بينما يشيع القهر في البيوت، وتنتشر صور الإهانات على الشاشات.
استمرار في مسلسل القهر من الساحل إلى السويداء
لم تجف دماء الساحل، حتى اشتعلت نيران أخرى في السويداء. المشاهد التي تكررت هناك تُظهر اعتداءات مروعة على السكان، وسط غموض مخيف بشأن هوية الفاعلين. هل البدو الذين هاجموا السكان يتبعون للدولة؟ أم لداعش؟ أم لجماعات مسلحة تعمل بتنسيق خفي؟
ومع دخول الجيش لفك الاشتباك، كان الأمل أن يتوقف النزيف، لكن الصدمة كانت أكبر حين تحولت الجهة التي يفترض بها أن تكون ضمانةً للأمن، إلى مصدر آخر للإهانة. تم حلق شوارب الشيوخ في الشوارع، ودعس الكوفية بالأقدام، وحرق البيوت، والدوس على صور سلطان باشا الأطرش، الزعيم الذي رفع العلم الأخضر الذي يرفعه الآن هؤلاء الذين ركلوا رمزه الوطني!
كيف نثق في دولة تهين رموزها؟
ما جرى في السويداء من تجاوزات هو إسقاط علني لأي مفهوم وطني مشترك. سلطان باشا الأطرش ليس فقط رمزاً درزياً، بل هو أحد أعمدة الكفاح السوري ضد الاحتلال الفرنسي. كيف يسمح الجندي السوري لنفسه أن يدوس صورته، وهو الذي يُفترض أن يحمي هذا الإرث؟ كيف يفتخر من ينتمي إلى “جيش الثورة” بإهانة من صنع أول بذورها؟
هذه الأفعال لا تعبّر عن أفراد متهورين فقط، بل تعكس خللاً عميقاً في العقيدة الأمنية، وتكشف أن شعارات التحرير لا تزال في كثير من الأحيان، مجرد ستار لسلطة جديدة تمارس القمع ذاته بأسلوب مختلف.
أزمة الثقة ودواء المحاسبة
لم يعد الشعب السوري يثق بالوعود. جراحه القديمة لم تلتئم، وها هي الجراح الجديدة تُفتح بأدوات من كان يُفترض أن يكون البديل العادل. وحدها المحاسبة العلنية، الشفافة، الصارمة، هي ما يعيد الثقة بين المواطن والدولة.
على الحكومة الانتقالية أن تدرك أن كل فيديو انتهاك يتم تسريبه هو رصاصة تُطلق على صورة الدولة. لا يكفي أن تقول إنها “بدأت التحقيق”،، وسيعاقب كل من تورط في الجرائم الصغيرة قبل الكبيرة منها، بل عليها أن تُعلن عن محاكمة علنية لأولئك الهمج، وتجعل من الجناة عبرة لمن لا يعتبر. وإلا، فإنّ العودة إلى “مربع بشار” لن تكون فقط في الذاكرة، بل في الواقع السياسي والاجتماعي.
لا مصالحة دون عدالة
إنّ الذي أهان شيخاً حتى مات قهراً، ارتكب جريمة لا تقل عن القتل. والدين نفسه الذي يتم التباهي به في الإعلام، ينص على أن “القاتل يُقتل”، و”العين بالعين”. إذا كانت الحكومة تريد أن تحكم باسم الشريعة، فلتطبّق الآية الكريمة﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾على كل من ثبتت عليه الجريمة، سواء أكانت جريمة مادية، أو معنوية، ونفسية.
الشعب لا يرضى بعبارات مبهمة مثل “تمت المحاسبة، ولا يمكن له أن يُقنع نفسه أن ما جرى كان حادثاً عرضياً. فمن أمن العقوبة أساء الأدب، ومن رأى أن زميله يفلت من المحاسبة، سيتجرأ على الإهانة والظلم بدوره.
لا جراح تُشفى بلا نية صادقة
ما يجري في سوريا ليس نزاعاً سياسياً، بل جرح في روح الناس، جرحٌ مفتوح من أيام الأسد، لم يندمل، ولا يبدو أنه سيبرأ إن استمرت الدولة في التستر على الجرائم، والتهرب من المحاسبة، والانغماس في سياسة التخوين والإنكار.
هرب بشار، لكن الأحقاد التي زرعها لم تهرب. بل خرجت من تحت الرماد، وأُعطيت صلاحيات وسلاحاً لتعيد ما كان، وربما بأسوأ مما كان.
من العدل تبدأ الدولة.. أو تنتهي
إنّ أساس بناء أي وطن سليم هو العدل. والعدل يبدأ حين يرى المواطن أن المعتدي يُحاكم، لا يُبرر له. وحين يشعر أن الدولة ليست فوق الناس، بل في خدمتهم.
إن لم تكن لدى الحكومة النية في محاسبة من اعتدى، فلا معنى لأي حديث عن إعادة الثقة أو وحدة وطنية أو انتقال سياسي. وما لم يُحاسَب من أهدر كرامة الناس في السويداء، ستبقى كل مدينة سورية خائفة، وكل مواطن يتلفّت في وطنه.
الكرامة لا تُستعاد بالشعارات، و الثقة تُستعاد حين يرى الناس أن دمهم، وبيوتهم، وشيبتهم، وصور أبطالهم، ليست سلعة بيد أي جندي مأجور، بل حقٌ لا يُمسّ.