عدنان بدرالدين
حين اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرا، بعد أقل من ستة أشهر فقط من بدء دونالد ترامب ولايته الرئاسية الثانية، ترشيح الأخير لنيل جائزة نوبل للسلام، تعامل كثيرون مع الاقتراح على أنه طرفة سمجة أو خروج ساخرعلى المنطق. وقد لا يكون هذا الانطباع مفاجئًا بالنظر إلى الشخصية الاستفزازية التي يمثلها ترامب في الوعي السياسي العالمي، وخطابه الحاد، وميله إلى فرض الهيبة بالقوة أو العقوبات بدل الحوار الهادئ. ومع ذلك، فإن التسرع في السخرية من الاقتراح قد يحجب سؤالًا أكثر عمقًا وإثارة: حقًا، لماذا لا يُمنح دونالد ترامب جائزة نوبل للسلام؟
إن القاعدة الأولى لفهم هذا الافتراض تتمثل في إدراك ما آلت إليه جائزة نوبل نفسها، من حيث واقعها وتاريخها. فالجائزة التي كان يُفترض أن تكون أرفع وسام يُمنح لصانعي السلام، تحوّلت خلال العقود الأخيرة إلى وسيلة سياسية محمّلة بالمفارقات والتناقضات. لقد مُنحت لزعماء يحمل سجلهم السياسي بصمات دم واضحة، أو طغى على تاريخهم طابع عسكري أو أمني صلب، لكنها كرّمتهم على مواقف رمزية أو اختراقات مؤقتة لم تسفر غالبًا عن سلام دائم. ففي عام 1973، حصل هنري كيسنجر على الجائزة رغم كونه أحد أهم مهندسي الحروب الأمريكية في فيتنام ولاوس وكمبوديا، بل وخطط لانقلاب بينوشيه في تشيلي، وساهم في إجهاض الثورة الكردية في كردستان العراق من خلال هندسة “اتفاق الجزائر” بين شاه إيران ونظام البعث عام 1975، الذي أسفر عن قطع الدعم فجأة عن المقاتلين الكرد وتركهم يواجهون اجتياح جيش البعث وحدهم. عندما واجهته الصحافة لاحقًا بتلك الخيانة، أجاب بجملة أصبحت مشهورة ومستفزة للغاية: “لا ينبغي الخلط بين العمل الدبلوماسي والعمل الخيري”، في إشارة إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية تُبنى على المصلحة، لا على الوفاء أو التعاطف، وهي عبارة تحمل مدلولًا بالغ السخرية والقسوة عندما تُقرأ من زاوية المأساة الكردية.
وحين مُنحت الجائزة عام 2009 للرئيس باراك أوباما بعد أشهر فقط من دخوله البيت الأبيض، أثارت دهشته شخصيًّا، إذ لم يكن قد حقق أي إنجاز يُذكر في مجال السلام، لا محليًا ولا دوليًا. بل إن سياساته لاحقًا عمّقت الحروب في الشرق الأوسط من خلال توسيع عمليات القتل بالطائرات المسيرة، والتخلي عن معاقبة النظام السوري رغم تجاوزه الخط الأحمر في استخدام الأسلحة الكيماوية، فضلًا عن تقارب إدارته مع تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، ما أسهم في تعميق الاستقطاب وعدم الاستقرار. وبالعودة قليلًا إلى الوراء، منحت الجائزة في 1994 لكل من إسحق رابين وياسر عرفات، رغم خلفيتهما العسكرية والأمنية المعروفة، وقبل ذلك، حصل مناحيم بيغن على الجائزة عام 1978 حين كان رئيسًا لوزراء إسرائيل، رغم تاريخه السابق كقائد لتنظيم ‘أرغون” الصهيوني المسلح، الذي كان مصنفًا إرهابيًا من قبل سلطات الانتداب البريطاني، وتورط في مجازر دموية ضد المدنيين خلال فترة الأربعينات.
وفي حالات أخرى، مُنحت الجائزة لأشخاص لم يكن لهم أي دور مباشر في إحلال السلام، بل نالوا الجائزة تقديرًا لجهود إنسانية أو اجتماعية محدودة، من أبرزهم محمد يونس من بنغلاديش، مؤسس بنك الفقراء، والذي اتُهم لاحقًا بالفساد، وشيرين عبادي، الناشطة الإيرانية من أجل حقوق النساء، رغم أن تأثيرها السياسي داخل إيران كان محدودًا واضطرت لاحقًا إلى مغادرتها. أما الجائزة الأكثر رمزية فكانت للطفلة الباكستانية ملالا يوسفزاي، التي حصلت على الجائزة عن عمر 17 عامًا فقط، بعد نجاتها من محاولة اغتيال نفذتها طالبان بسبب دفاعها عن التعليم العام في بلد يعاني من التشدد والتهميش. لم تكن ملالا مسؤولة سياسية، ولا ناشطة ميدانية، لكنها تحولت إلى رمز إعلامي عالمي للحق في التعليم، وهو ما يكشف أن الجائزة لا تُمنح دائمًا لصنّاع السلام الحقيقيين، بل أحيانًا تُمنح لأصحاب الرموز الأكثر تأثيرًا في الرأي العام الدولي.
إذا أخذنا هذا المسار التاريخي بعين الاعتبار، فإن طرح اسم دونالد ترامب لن يبدو مجافيًا للمنطق. فهو رئيس أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وثقافية في العالم، ولم يبدأ حربًا خارجية كبرى كما فعل كثير من أسلافه. صحيح أنه نفذ عمليات محدودة مثل الضربة الأخيرة التي استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية خلال المواجهة مع إسرائيل، إلا أن ولايته الأولى لم تتضمن مغامرات عسكرية طويلة الأجل، بل سعى في بعض الأحيان لعقد اتفاقات سياسية بديلة، كما في “اتفاقيات إبراهيم” بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وهي اتفاقيات وُقعت برعاية أمريكية، ويُصر ترامب على اعتبارها “إنجازًا شخصيًا”.
ثم إن هناك بعدًا لا يُستهان به في حالة ترامب، وهو هوسه الواضح بجائزة نوبل للسلام. الرجل عبّر مرارًا عن امتعاضه لأن أوباما حصل على الجائزة “فقط لأنه أصبح رئيسًا”، واشتكى من تجاهل اللجنة المانحة له رغم ما وصفه بـ”إنجازاته الكبيرة”. وهذه النرجسية، التي تُعد سلبية في السياق الأخلاقي، قد تتحول إلى حافز إيجابي في السياق السياسي إذا استُثمرت بطريقة ذكية. إن تقديم الجائزة له، أو التلويح بها على الأقل، قد يدفعه إلى التصرف كزعيم يبحث عن المجد في السلام بدلًا من أن يبحث عنه في الهيمنة والانتصارات المؤقتة. وهذا وحده، إن تحقق، سيكون إنجازًا تستحقه الجائزة، رغم أنها ستظل، مع ذلك، مفارقة لافتة تضاف إلى سلسلة المفارقات التي لازمت تاريخ هذه الجائزة المرموقة. فحصول دونالد ترامب عليها، رغم كل شيء، لا يمكن اعتباره حدثًا اعتياديًا بأي مقياس سياسي أو أخلاقي.
ربما، في لحظة ما، يستطيع السلام أن يُسخّر الغرور لصالحه بدلًا من أن يكون ضحيته. حقًا، لمَ لا؟
9 تموز 2025