أمريكا تُنعش سردية العداء مع النظام الإيراني تمهيدًا لمواجهة محتملة

د. محمود عباس

 

ليس من العبث أو محض الصدفة أن تعود وسائل الإعلام الأمريكية، وعلى رأسها قناة فوكس نيوز، إلى استحضار وقائع تاريخية تعود إلى أكثر من أربعة عقود، كاقتحام السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 واحتجاز دبلوماسييها لمدة 444 يوماً، أو تفجير مقر المارينز في بيروت عام 1983 (وليس 1984 كما أشيع) الذي أودى بحياة 241 جنديًا أمريكيًا، في هجوم تبنته جماعة مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني بشكل غير مباشر، وكانت واشنطن قد وجّهت أصابع الاتهام حينها إلى “حزب الله” المدعوم من إيران.

في الواقع، ما يجري ليس مجرد استذكار لأحداث الماضي، بل هو صناعة للرأي العام، واستحضار “سردية عداء” استراتيجية، تقوم على ربط النظام الإيراني بـ “محور الشر” الذي صاغه الرئيس جورج بوش الابن عام 2002، والذي وُضعت فيه إيران إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، كدولٍ “تهدد السلم العالمي بأسلحة الدمار الشامل والإرهاب الأيديولوجي”.

اليوم، تعيد إدارة الرئيس ترامب، الذي عاد للبيت الأبيض في ولايته الثانية، هذا الخطاب إلى الواجهة. لكن هذه المرة، ليس من أجل استعراض البلاغة السياسية، بل تمهيدًا لرأي عام داخلي قد يجد نفسه، في أي لحظة، أمام حرب أمريكية إسرائيلية محتملة ضد النظام الحالي في إيران، ويتم التأكيد على أنه ليس ضد إيران كشعب. وما يُقدَّم الآن في الإعلام ليس مجرد تحفيز عاطفي، بل تهيئة نفسية وإستراتيجية للرأي العام الأمريكي، الذي أنهكته حروب الشرق الأوسط، ولا يرغب في صراع خارجي جديد ما لم يكن “مبررًا أخلاقيًا أو دفاعيًا”.

الرسالة التي تبثها النخبة الإعلامية القريبة من الحزب الجمهوري حالياً هي أن النظام الإيراني لا تشكّل تهديدًا لإسرائيل أو السعودية أو الإمارات فقط، بل لأمريكا وأوروبا على حد سواء، خاصة بعد التقدم الذي حققته طهران في تخصيب اليورانيوم، والذي تجاوز حاجز الـ 60%، وهي نسبة تقترب تقنيًا من حدود الاستخدام العسكري. وفقًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، فإن إيران تملك الآن مخزونًا من اليورانيوم المخصب يكفي لصنع قنبلة نووية خلال فترة زمنية قصيرة إذا قررت ذلك سياسيًا.

تصريحات ترامب الأخيرة حول أنه “سيقرر خلال أسبوعين” ما إذا كانت هناك حاجة لتدخل عسكري، ليست مجرد ورقة ضغط، بل جزء من استراتيجية “الردع دون تورط مباشر”، وهي نفسها التي استخدمها في الأزمة الكورية عام 2017، قبل لقائه كيم جونغ أون. لكن مع إيران، يبدو الوضع أكثر تعقيدًا، فالحرس الثوري يملك أذرعاً عسكرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، قادرة على الرد والتصعيد، ما يجعل أي خطوة أمريكية محفوفة بثمن إقليمي باهظ، لا يمكن حسابه بخفة.

لذا، فإن التمهيد الإعلامي الحالي يشير إلى احتمالين متوازيين:

الضغط الأقصى الذي قد يؤدي إلى رضوخ إيراني جزئي، خاصة بعد ضربات إسرائيلية مؤلمة في الداخل الإيراني (كما حدث في نطنز وغيرها).

أو، التحضير لضربة محددة، مدروسة، تشارك فيها أمريكا بشكل مباشر أو غير مباشر، لضرب المنشآت النووية العصية على قوة السلاح الإسرائيلي، وربما مراكز القيادة المرتبطة بالحرس الثوري أيضا.

حين يُعاد تدوير الماضي على شاشات الإعلام، فذلك لأن الحاضر يتطلب ذاكرة انتقائية، وإيران، مهما غيّرت في خطابها التكتيكي، لم تمحُ في عين الإدارة الأمريكية صورتها كعدو أيديولوجي دائم. ما يجري اليوم ليس مجرد حملة إعلامية، بل هندسة بصرية ونفسية للوعي العام، على شاكلة ما حدث قبل غزو العراق عام 2003، حين كانت الكلمات تُستخدم كأسلحة تمهيدية، لا تقل دمارًا عن الصواريخ.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

19/6/2025م

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…