شيرزاد هواري
في ظل واقع معقد وغياب شبه رسمي للمجالس المحلية، تشق مبادرات أهالي عفرين طريقها كنبض حيّ وسط الركام، تعيد للمدينة روحها وتؤكد أن الإنسان كان وما زال هو القضية الأولى.
من حملات التوعية البيئية إلى حملات النظافة التي تحمل عنوان الحضارة، ومن جهود التشجير وإعادة تزيين الطبيعة، إلى كفالة الأيتام والوقوف معهم ماديًا ومعنويًا، وصولًا إلى ترميم الطرق بالإسمنت وتعبيدها رغم ضعف الإمكانات… كلها مؤشرات صادقة على أن عفرين لم تمت، وأن شعبها مصرٌّ على النهوض بها رغم كل التحديات.
هذه المبادرات لا تأتي فقط كفعل عفوي، بل كحاجة وجودية. إنها صرخة الحياة في وجه الغياب الإداري والتقصير المؤسساتي، ودعوة واضحة لأنسنة العمل المجتمعي وتقديم ما يستحقه الإنسان من كرامة، دعم، واحتضان.
ورغم تعاطف المجالس المحلية مع هذه المبادرات، يظل غياب الرؤية والإدارة في التوجيه والصرف، وصراع المنافسات الإيجابية بين الفاعلين المجتمعيين، سببًا في بعثرة الجهود أحيانًا. في ظل هذا المشهد، نتساءل: لماذا لم نرَ دعاة هذه المبادرات يومًا في موسم قطاف الزيتون معًا، أو في حملات حراسته من الطامعين؟ وأين هم محامو الكرد في الدفاع عن المظلومين أمام المحاكم، رغم الجهود الخجولة التي يبذلها البعض هنا وهناك؟
ونسأل أكثر: لماذا لم نرَ أصحاب هذه المبادرات أيضًا في مقدمة من يتصدّى للارتفاع الجنوني في أسعار الإيجارات وبيع العقارات، التي باتت تثقل كاهل المواطنين العائدين، وتفوق بأشواط نظيراتها في القرى والمناطق المجاورة، بل حتى في بعض الدول؟ أليس من واجب من يحمل راية العمل المجتمعي أن يطالب بسياسات عادلة للسكن؟ أين هم من إطلاق مبادرات لمراقبة الأسواق العقارية، ووضع حدٍّ للاستغلال؟
ولا يغيب عنّا أيضًا صمت كثيرين من أبناء “القيادة” و”التنمية البشرية” أمام ظواهر تضر بالوعي المجتمعي، مثل ضعف استخدام اللغة الكردية في الحملات التوعوية، وغياب دور ريادي لهؤلاء في قيادة حراك مدني ثقافي يُعيد للغة والهوية الكردية مكانتها، خصوصًا بين الجيل الناشئ. ناهيك عن ظواهر القطع المتكرر للغابات، وهي جريمة بحق الطبيعة لا تُواجه بما تستحق من حزم وتوعية، رغم تقديرنا لظروف الناس العامة وظلم الواقع الذي يُجبر البعض على ارتكاب هذه الانتهاكات بدافع الحاجة.
إلى جانب ذلك، تبرز ضرورة ملحّة لإيجاد صيغ ووجهات إعلامية وحقوقية ترتقي إلى مستوى الحس الوطني والمسؤولية الجماعية، وتتفوق على منطق “الآنا” الشخصية أو العائلية أو القروية، حتى تتمكن من تسليط الضوء على الظلام، وتعكس الواقع الحقيقي في المجتمع العفريني. نحن بحاجة إلى منصات تمثل الصوت النابض للناس، لا مجرد صدى لمصالح فردية، منصات قادرة على نقل الصورة بعدالة، وممارسة الضغط المشروع لتحقيق حقوق الناس، والدفاع عنهم، وفتح الأبواب أمام تمثيل متوازن ومتكامل مع باقي المنظمات والجهات المعنية بالحراك المجتمعي في عفرين.
ما أحوجنا اليوم إلى مبادرات موحّدة في مواجهة حملات التشويه والإساءة التي تطال الشرفاء، وإلى تضامن فعلي في وجه من يحاول زرع الفتنة أو النيل من كرامة الناس باسم النضال الزائف. نحن بحاجة إلى الارتقاء في الأداء المجتمعي، وإلى بيئة تعزز ثقة الناس ببعضهم، وتحفّز المبادرة لا تحاصرها.
لقد قرأنا، على سبيل المثال، عن مبادرة “فريق أبناء الزيتونة” في تنظيف المقابر والمزارات قبل العيد، تحت شعار نبيل: “بالحب والنظافة والسلامة نحافظ على منطقتنا. عفرين لا يليق بها إلا الجمال.” عملٌ إنساني يُحترم، لا شك، فالموتى يستحقون الراحة، ومزاراتهم تستحق العناية. لكن، وفي ظل هذا الحماس، هل نسينا من هم بيننا ويئنّون من وجع الحياة؟
هناك أحياء في عفرين عادوا من المنافي ولم يجدوا ما يقيهم الحرّ أو الجوع، وهناك طلاب جامعات ينتظرون من يمدّ لهم يد الدعم، وأرامل يقفن في طوابير الحاجة، وطرقات مكسّرة، ومدارس مهجورة، وشباب يبحثون عن فرصة للكرامة لا للشفقة.
هل نحن بحاجة لمزيد من المبادرات؟ نعم. لكن مبادرات تهتم بالأحبّة منّا قبل أن يتحولوا إلى أسماء على شواهد القبور. نريد أن تكون عفرين مدينة للحياة، لا فقط متحفًا للمقابر الجميلة. نحتاج لمبادرات ترمم البيوت، وتزيّن الأرصفة، وتنظّم جلسات دعم نفسي وتربوي، لا فقط حملات تقليم الأعشاب حول القبور.
“حين يرون اهتمامكم بنا، نحيا أكثر”… عبارة لا تحتاج إلى زخرفة. إنما تستحق أن تُترجم إلى أفعال. فلنعتنِ بمن بقي، ولنقف إلى جانبهم، ولنضع حبنا في موضعه الصحيح: في دعم الإنسان، ورعاية الضعيف، وإحياء الكرامة.
ليس رفضًا لأي مبادرة خيّرة، بل دعوة لتوسيع الرؤية: أن تكون المقابر نظيفة، والبيوت آمنة، والقلوب مطمئنة، والناس متكاتفين… هذا هو المعنى الكامل للجمال في عفرين.
ولأن الأموات قد ارتاحوا… فلنهتم بمن لم يرتَح بعد.