الفيدرالية

شادي حاجي

ترتفع يوماً بعد يوم حدة النقاش كردياً وسورياً حول الفدرالية وتتعالى الأصوات حول الموضوع بشكل أكثر لقرب انعقاد المؤتمر الوطني الكردي الموحد لإقرار وثيقة التفاهم الذي حصل بين الأنكسة وال ب ي د وتشكيل وفد موحد لتمثيل الشعب الكردي في سوريا والرؤية السياسية المشتركة التي سيتم إقراراها وتصديقها في المؤتمر بهدف الدخول في المفاوضات مع الادارة السياسية في دمشق وطرح موضوع النظام الفيدرالي .
الإشكالية هنا هو أن هذا الطرح لم يصاحبه جهد تأطيري لا من قبل منظمات المجتمع المدني كردياً وسورياً لعدم امتلاكها الحيوية أو الرؤية الواضحة في مثل هذه القضايا السياسية والقانونية الجوهرية التي تخص بناء الدولة من جديد ولا من قبل الأحزاب السياسية الكردية والعربية السورية بالإضافة الى غياب الدور التنويري للإعلام مما أدى الى عدم وجود الفهم الكافي لعامة الشعب ولمسؤولي الإدارة السياسية في دمشق ماذا تعني الفدرالية؟
وهل فيها خير لسوريا كدولة بكل مكوناتها أم لا؟
ولايخفى على المتابعين للشأن السياسي العام في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد ظهور أراء متعارضة حول مآلات الدعوة إلى الفدرالية:
1 – البعض يعتبر أن الفدرالية تعني الإنقسام والإنفصال وخسارة سوريا كدولة موحدة بحدودها المعروفة دولياً إلى الأبد .
2 – البعض من جهة أخرى من يطالب بالنظام المركزي الرئاسي ورفض تحويل سوريا إلى دولة فدرالية أو حتى الى دولة لامركزية ادارية وإدارات محلية خشية أن تؤدي على تمزيق البلد أو الأصح رفض منح الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية للمكونات السورية الأخرى وظهر هذا التوجه بشكل واضح وعلني من خلال الإعلان الدستوري المؤقت الذي تم رفضه من قبل المكونات القومية والدينية والطائفية .
لذلك نرى أن الحديث حول الفيدرالية وشكل النظام السياسي في سوريا تحول إلى بعض النقاشات النخبوية القليلة والبطيئة فيها من يتاجر بالقضية وفيها من يرفع مطالب مشروعة ( الشعب الكردي في سوريا ممثلة بحركتها السياسية والثقافية والمجتمعية وبعض المتنورين من المكونات الأخرى نموذجاً ) .
علماً أن الكل يعرف حق المعرفة أن الفدرالية في معناها الأساسي هي شكل من أشكال التسويات السياسية وطريقة ديمقراطية في إدارة الشأن العام وتضمن تمثيلاً حقيقياً لجميع المكونات القومية والدينية والطائفية مقارنة بتسلط الأغلبية والمركزية الاستبدادية .
 في الحقيقة لا أرى أن الذين يطالبون بالفيدرالية يبالغون إذا قالوا أنها حل سحري للنزاع في سوريا المتعددة القوميات والأديان والطوائف مثلما أصبحت حلاً للنزاعات في المجتمعات المتعددة قومياً ودينياً وطائفياً لدول كثيرة في العالم بل وحتى في البلدان المتجانسة نسبياً إذ هي أيضا طريقة لمعالجة التفاوت الاقتصادي والتنموي بين أقاليم الدولة الواحدة وهذا ماثبت تحقيقه في أكثر من دولة فيدرالية في العالم وعلى ضوء ماسبق ذكره أعلاه من أسباب وحقائق أرى أنه لا ضير من عدم التوقّف عند المصطلح في حد ذاته ( الفيدرالية . الاتحادية . اللامركزية السياسية وو.. ) والمرور إلى ما يوفّره هذا النظام من عدالة بين المكونات أو الأقاليم وإدارة الشأن العام التي تتميّز بالشمولية والسماح لجميع مكوّنات المجتمع بالمشاركة في إدارة الدولة من خلال إدارة أقاليمها على أساس العدالة في توزيع الثروة والسلطة والديمقراطية والهيكلة المرنة للحكم والحكومة والقدرة على الحد من السلّم الإداري وحكم الشعب نفسه وبنفسه ولنفسه فضلاً عن توفير السلام والأمن والإستقرار .
أعتقد لفهم الفيدرالية بشكل أوضح وأكثر شفافية لابد أن نعود ويعود أصحاب القرار السياسي في دمشق وممثلي كل المكونات السورية والمهتمين بالشأن السياسي السوري إلى التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية حينها سيقرأون ليس فقط قصة نهوض دولة من ركام الهزيمة بل سيقف الجميع أمام نموذج عميق لفنّ إعادة بناء الدولة على أسس تعاقدية متينة جعلت من الفيدرالية أداة للتماسك والديمقراطية لا للتفكك ولا للتسلط.
وسيلاحظون أن ألمانيا الخارجة من الحرب لم تكن فقط بلداً مهزوماً عسكرياً بل كانت محطّمة سياسياً وأخلاقياً حاملة لإرث ثقيل من النظام النازي والكل يعلم أن سوريا لايختلف عن ماتعرض له ألمانيا في تلك الحقبة من الزمن  في كثير من الحالات وفي ظل هذا الانهيار الشامل لألمانيا جاءت الفيدرالية الألمانية بوصفها تعاقداً جديداً بين المركز والأقاليم يحول دون عودة النزعة المركزية الاستبدادية، ويمنح كل ولاية حق التعبير عن هويتها السياسية والثقافية والأمنية والقانونية ضمن الإطار العام للدولة.
وبالتالي فإن فيدرالية ألمانيا الحديثة لم تكن مجرد تقسيم إداري للسلطات بين المركز والولايات، بل كانت مشروعاً فلسفياً وسياسياً متكاملاً لإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة بين الخصوصي والعام وبين المحلّي والوطني وبالتالي لم تكن في أيِّ صورةٍ من صُورها تنازلًا من الدولة بل كانت تعبيرًا عن قناعة راسخة بأن تنوّع الأقاليم واختلاف ثقافاتها وتجاربها هو مصدر قوة لا تهديداً للوحدة.
وقد تجلّى هذا في الدستور الألماني أو القانون الأساسي الذي منح الولايات سلطات واسعة في مجالات الحكم المحلي ، التعليم، الشرطة، الثقافة، وحتى في بعض جوانب التشريع، في حين احتفظ المركز بالسياسات السيادية الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة.
والوضع السوري لايختلف عن ماتعرض له ألمانيا في تلك الحقبة من الزمن فالسوريون أمام تعددية قومية ودينية وطائفية وحتى باتت مناطقية عميقة في بعضها وذاكرة مثقلة بالإضطهاد والقمع والإنكار والحرمان والصراع سياسياً وثقافياً ومجتمعياً وشبه انعدام للثقة بين جميع المكونات فضلاً عن تدخلات خارجية اقليمية ودولية متضاربة المصالح والأهداف منذ أن استلم حزب البعث وآل الأسد الحكم في سوريا وزادت وتيرة هذا الأمر أكثر شدة منذ الأزمة السورية التي اندلعت في عام 2011 وهذا ما يجعل من التجربة الألمانية الناجحة والتجارب الأخرى السويسرية والأمريكية والإماراتية وو .. الخ أمراً بالغة الأهمية لا نقول باستنساخ تلك التجارب والنماذج بل بالحاجة  إلى الاستفادة منها وإعادة تأويلها وفق مايناسب الوضع السوري قومياً ودينياً وطائفياً وجغرافياً وتاريخياً وبما يخدم الدولة السورية ومكوناتها ووحدة وسيادة أراضيها وحدودها الدولية  .
ليس غريباً ولا عجيباً ولا مستحيلاً أن يستوعب أصحاب القرار السياسي في دمشق وممثلي جميع المكونات القومية والدينية والطائفية السورية التجارب والنماذج التي أشرنا إليها أعلاه والدروس التي يمكن استخلاصها في إمكانية العمل بشكل مشترك لإمتلاك القدرة على تحويل الفيدرالية من مجرد آلية ونظام حكم إلى فلسفة في إدارة الاختلاف وهذا ما تحتاجه سوريا اليوم .
نظاماً فيدرالياً ليس فقط يوزّع السلطات والثروات بل عقداً إجتماعياً يؤسس لمفهوم جديد للمواطنة المواطنة التي تعترف بالتنوع وتضمن الحقوق للجميع .
وأخيراً وليس آخراً فإذا كان من شيء يمكن تعلمه من التجربة الألمانية والتجارب العالمية الأخرى والتي نوهنا الى بعضها هي أن الفيدرالية ليست بداية للتفكك كما يحلو للبعض تفسيرها بل هي ستكون إذا توفرت الرغبة المشتركة والصدق في النوايا ونُسجت بالإرادة السياسية الجامعة والرؤية الدستورية العادلة والشفافة ببنودها وفقراتها الواضحة التي لاتحتمل تفسيرات مختلفة والفهم الشعبي لحقيقتها مدخلاً جيداً وجديداً لهندسة الدولة السورية على أساس من العدالة والتوازن والتشاركية الحقيقية.
وإلى مستقبل أفضل
ألمانيا في 25/4/2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…