لا مجتمع حي بلا أحزاب حيّة: دفاع عن العمل السياسي الكردي في سوريا

اكرم حسين 

 

في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها تنطوي على رؤية غير واقعية، بل وخطيرة، لأنها تسعى إلى معالجة الخلل السياسي من خلال إلغاء السياسة نفسها.

صحيح أن الحياة الحزبية الكردية تعاني من التكلس والانقسام، وأن السنوات الأربع عشرة الماضية شهدت تزايداً غير صحي في عدد التشكيلات السياسية، دون أن يقابله تطور حقيقي في الخطاب أو التأثير أو الإنجاز، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الأحزاب – رغم كل ذلك – لا تزال تشكل الحامل الأساسي للهوية القومية الكردية في سوريا، والإطار المنظم الوحيد الذي خاض، وما يزال، معركة الوجود والكرامة في وجه منظومة سياسية لا تعترف بالشعب الكردي ولا بحقوقه.

إن الدعوة لإلغاء هذه الأحزاب، أو دفنها بحجة أنها فشلت، ليست نقداً بناءً، بل هروباً من المسؤولية، لأنها تطرح الفراغ كبديل، وتتجاهل أن الصراع في سوريا ليس صراع خدمات أو تنمية فقط، بل صراع على الهوية والحقوق والمشاركة ، ومن ثم، فإن تفكيك ما تبقى من البنية السياسية الكردية لا يخدم إلا من يعملون على تذويب الكرد في الهوية السورية المركزية، وتحويلهم إلى مجرد مكوّن بلا صوت ولا تأثير.

لا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عن العمل السياسي المنظم، ولا يمكن لأي قضية قومية أن تُدار عبر المبادرات الفردية أو الجمعيات المدنية فقط. فالمجتمع المدني، مهما بلغ من القوة والفعالية، لا يستطيع أن يحل مكان الأحزاب في إدارة الصراع السياسي، أو في تمثيل الإرادة الشعبية، أو في خوض معارك الاعتراف والحقوق.

لكن بالمقابل، من حق الشارع الكردي أن يُطالب بأحزاب جديدة في مضمونها، قوية في أدائها، واضحة في خطابها، وشجاعة في دفاعها عن القضية الكردية في إطار وطني ديمقراطي جامع. نحن بحاجة إلى أحزاب تضع مصلحة الشعب فوق مصلحة التنظيم، وتكسر عقلية الولاءات الضيقة، وتتحرر من الحسابات الشخصية، لتكون قادرة على التصدي للتمييز البنيوي الذي تمارسه الأغلبية العربية في سوريا، وعلى فرض معادلة جديدة عنوانها: لا وطن حر دون الاعتراف الكامل بالوجود الكردي وحقوقه القومية.

سوريا المستقبل لا يمكن أن تُبنى على الإنكار والإقصاء. كما لا يمكن أن تُبنى على شعب منزوع السياسة ومُجرّد من أدوات الدفاع عن ذاته. من هنا، فإن إعادة الاعتبار للعمل الحزبي الكردي – لا إلغاءه – هو الخيار الأكثر نضجاً، والأقرب إلى مصلحة الشعب الكردي، خاصة في هذه المرحلة الانتقالية التي تفرض على الجميع وضوحاً في الرؤية، وجرأة في الفعل، وتجاوزاً للمرارة الشخصية لصالح المصلحة العامة.

باختصار، نحن لا نحتاج إلى أقل من ثورة داخل الأحزاب الكردية، تُجدد مضمونها، وتُصحح بنيتها، وتُعيد وصلها بجمهورها. أما الدعوة إلى محوها من الخارطة، فهي لا تخدم سوى من يريد للكرد أن يبقوا بلا عنوان سياسي، وبلا أمل في التغيير.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في عالم السياسة، كما في الحياة اليومية عندما نقود آلية ونسير في الشوارع والطرقات ، ويصادفنا منعطف اونسعى إلى العودة لاي سبب ، هناك من يلتزم المسار بهدوء ، وهناك من “يكوّع” فجأة عند أول منعطف دون سابق إنذار. فالتكويع مصطلح شعبي مشتق من سلوك السائق الذي ينحرف بشكل مفاجئ دون إعطاء إشارة، لكنه في السياسة يكتسب…

إبراهيم اليوسف توطئة واستعادة: لا تظهر الحقائق كما هي، في الأزمنة والمراحل العصيبةٍ، بل تُدارُ-عادة- وعلى ضوء التجربة، بمنطق المؤامرة والتضليل، إذ أنه بعد زيارتنا لأوروبا عام 2004، أخذ التهديد ضدنا: الشهيد مشعل التمو وأنا طابعًا أكثر خبثًا، وأكثر استهدافًا وإجراماً إرهابياً. لم أكن ممن يعلن عن ذلك سريعاً، بل كنت أتحين التوقيت المناسب، حين يزول الخطر وتنجلي…

خوشناف سليمان ديبو بعد غياب امتدّ ثلاثة وأربعين عاماً، زرتُ أخيراً مسقط رأسي في “روجآفاي كُردستان”. كانت زيارة أشبه بلقاءٍ بين ذاكرة قديمة وواقع بدا كأن الزمن مرّ بجانبه دون أن يلامسه. خلال هذه السنوات الطويلة، تبدّلت الخرائط وتغيّرت الأمكنة والوجوه؛ ومع ذلك، ظلت الشوارع والأزقة والمباني على حالها كما كانت، بل بدت أشد قتامة وكآبة. البيوت هي ذاتها،…

اكرم حسين في المشهد السياسي الكردي السوري، الذي يتسم غالباً بالحذر والتردد في الإقرار بالأخطاء، تأتي رسالة عضو الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي، السيد سليمان أوسو، حيث نشرها على صفحته الشخصية ، بعد انعقاد “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي “، كموقف إيجابي ، يستحق التقدير. فقد حملت رسالته اعتذاراً صريحاً لمجموعة واسعة من المثقفين والأكاديميين والشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني،…