الإعلان الدستوري خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء في بناء سوريا.

عبداللطيف محمدأمين موسى

 

يُعتبر التحول الديمقراطي من الأمور الأساسية للسير في بناء عملية الانتقال السليم، التي تستند إلى تأسيس منظومة الحكم في البلدان التي تشهد التخلص من الديكتاتورية والظلم ومصادرة إرادة الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية والمساواة والتعايش السلمي والمشاركة في بناء الدولة المدنية المتنوعة. وكما أن التخلص من نظام اللون الواحد والديكتاتورية التي مارستها منظومة حكم البعث على مدى عقود من الزمن في سورية شكّل الحلقة الأساسية والمنطلق لدى السوريين، عمومًا، في بناء نظام حكم ديمقراطي تعددي يتشارك فيه جميع المكونات السورية السلطة وإدارة الموارد دون إقصاء أو تهميش.

غير أن الأسس والتحولات التي اعتمدت عليها عملية الانتقال السياسي مع سقوط نظام البعث واستلام أحمد الشرع زمام إدارة السلطة في سورية لم ترتقِ إلى مستوى طموحات الشعب السوري، عمومًا، والشعب الكُردي، على وجه الخصوص. فقد اتسمت تلك التحولات بالغموض، وافتقرت إلى الاستراتيجية والرؤية المستقبلية، كما اتسمت بالبطء والتوجه الأحادي والتهميش المكوناتي، مع غياب النشاط السياسي، الأمر الذي تجلّى في تعيين الشرع دون حضور النخب السياسية والقانونية، وكذلك في غياب الدور الدولي. كما انعكس ذلك في طريقة تشكيل لجنة وأعضاء مؤتمر الحوار الوطني وقراراته، التي لم تعكس التنوع والتشاركية في سورية، وكذلك في تعيين أعضاء لجنة صياغة مسودة الإعلان الدستوري، الذي جاء إقصائيًا واقتصر على توجه سياسي واحد.

أما الإعلان الدستوري، الذي صادق عليه الشرع، فقد اقتصر على المبادئ العامة التمهيدية والتأسيسية لنظام الحكم المستقبلي في سورية، لكنه أرسى مركزية الدولة، وحصر جميع الصلاحيات بيد الشرع، في إقصاء واضح لكافة المكونات والأقليات والقوميات السورية. وقد شكل هذا الإعلان خطرًا حقيقيًا على شرعية الحكم في سورية، خاصة في ظل الصعوبات والتحديات المرتبطة بكسب الشرعية الدولية، لا سيما بعد الأحداث الأخيرة التي شهدها الساحل السوري، والفيديوهات التي صدمت العالم، والتي كشفت عن العنف الطائفي والعرقي، مما أدى إلى زعزعة الاستقرار وانزلاق سورية نحو العنف وانعدام الأمن. واستدعى ذلك نقل هذا الملف إلى هيئة الأمم المتحدة، التي أصدرت قرارًا يدين العنف ويدعو إلى محاسبة النظام الحاكم في سورية.

وجاء الإعلان الدستوري ليضع عقبات أمام رفع العقوبات الدولية، ويكرّس سياسة العزلة الدولية، ويبعد المجتمع الدولي والإقليمي عن مساعدة الشعب السوري. كما ساهم في إعادة تشكيل صورة التشدد والجهادية حول النظام الجديد في سورية. وقد شكّل الإعلان خيبة أمل كبيرة للشعب السوري، الذي كان يطمح إلى نظام حكم تعددي ديمقراطي، يتشارك فيه الجميع في السلطة وإدارة الثروات، ويساهم في بناء سورية حديثة خالية من الديكتاتورية والظلم.

إلى جانب ذلك، أعاد هذا الإعلان الدستوري الخوف من تكريس الشمولية في القرار السياسي، عبر التجاهل الواضح والتهميش الصريح للمكونات والقوميات السورية، التي شاركت جميعها في التخلص من الديكتاتورية ومصادرة إرادة التعبير في ظل نظام البعث. كما أعاد إلى الأذهان الدساتير السابقة، التي تجاهلت كافة المكونات واقتصرت على توجه سياسي واحد، كما يتضح من المادة الأولى في الإعلان الدستوري، التي تنصّ على “الجمهورية العربية السورية”. كذلك، فإن مواد الدستور صادرت حق الشعب السوري في اختيار ممثليه في السلطة التشريعية، من خلال منح الشرع كافة الصلاحيات، بما في ذلك تعيين أعضاء مجلس الشعب، وتعيين الوزراء، وقيادة الجيش، وإعلان حالة الطوارئ، مما يعيد إلى الأذهان عقلية اللون الواحد والشمولية والتفرد بالسلطة.

إن هذا الإعلان الدستوري يناقض مبادئ العيش المشترك بين السوريين، ويكرّس التهميش، ويعزز انعدام الثقة والإحساس بالظلم والإقصاء، مما قد يخلق آثارًا سلبية مدمّرة على مستقبل سورية، ويؤدي إلى فقدان الثقة بين الشعب والسلطة. كما تجاهل الإعلان الدستوري حقوق الشعب الكُردي في التشارك والتوازن والتوافق، ولم يستجب لمطالبه في بناء سورية ديمقراطية تعددية فيدرالية، يحتفظ فيها الكُرد بحق إدارة مناطقهم والتعبير عن حق تقرير المصير ضمن سورية موحدة، يتساوى فيها الجميع في السلطة وإدارة الثروات.

في المحصلة، يمكن القول إن الإعلان الدستوري في سورية جاء مخالفًا لتوقعات وطموحات أغلب الشعب السوري، الذي ضحّى بالكثير من أجل التخلص من الديكتاتورية والظلم. كما أنه سيمثل تحديًا كبيرًا أمام عملية الانتقال السليم نحو سورية الحديثة، لا سيما مع صعوبة كسب الشرعية الدولية، التي تقوم أساسًا على مبدأ مشاركة جميع المكونات وعدم التهميش والإقصاء. ومن شأن هذا الإعلان إعادة سورية إلى حالة عدم الاستقرار، والانزلاق نحو العنف، وفقدان الأمن، وإضعاف الإرادة والطموح في المشاركة في بناء سورية. وهكذا، فإن هذا الإعلان يعدّ خطوة إلى الوراء في بناء سورية، من خلال تكريس نظام المركزية والاستفراد بالسلطة وتهميش كافة المكونات والكيانات والأقليات السورية، وعلى رأسها الشعب الكُردي، الذي كان مكونًا أساسيًا في سورية، وساهم في بنائها منذ الاستقلال وحتى التخلص من نظام البعث.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ملف «ولاتي مه» حول مستقبل الكورد في سوريا، يُعتبر أحد الملفات الهامة التي تُناقش مستقبل الكورد في سوريا في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص. يركز هذا الملف على تحليل الأوضاع الراهنة والتحديات التي يواجهها الكورد، بالإضافة إلى استعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبلهم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية. يسلط الملف الضوء على أهمية الوحدة والتعاون بين مختلف…

أحمد حسن   معلوم أن سوريا بلد متعدد المكونات ( عرقية – مذهبية – دينية – اثنية – ……… ) وهذا يتطلب دستورا ديمقراطيا عصريا وحضاريا يحقق طموحات وأمال كافة المكونات بعد سنوات من الظلم والغبن من الأنظمة الديكتاتورية بحق كافة المكونات لا سيما نظام الأسدين ( الأب والابن ) لكن بعد انهيار نظام الطاغية بشار الأسد في 8/12/2024…

بيان إلى الرأي العام   تفاءلنا خيرا نحن في قوى المجتمع المدني الكوردستاني كما معظم أبناء شعبنا بسقوط النظام الديكتاتوري، الذي جثم على صدر السوريين قرابة ستة عقود والذي اتسم بتفشي الفساد وبناء الدولة الأمنية التي زرعت السجون والمعتقلات في طول البلاد وعرضها، ورحبنا بالسلطة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع على أمل اتخاذ إجراءات بحل هيئة تحرير الشام والانتقال من…

مقدمة… الإعلان الدستوري الصادر مؤخرًا عن سلطة الأمر الواقع في سوريا يفتقر إلى الشرعية الدستورية والقانونية، حيث لم يصدر عن مؤسسات دستورية منتخبة ومعترف بها، بل جاء نتيجة تعيين فصائلي فرض سلطة غير شرعية على الدولة. إن الرئيس الذي أصدر هذا الإعلان لم يُنتخب من قبل الشعب، بل تم فرضه من قبل مجموعة من الفصائل، كما أنه مطلوب دوليًا بتهم…