في العنف والعنف المضاد أو ثقافة العبث وجذور العنصرية القديمة

إبراهيم اليوسف

 

لا ينشأ العنف من فراغ، البتة، وإنما هو نتاج ثقافة متجذرة في العنصرية والكراهية، وفق تربية: البيت- الشارع- الوسط الاجتماعي الضيق- البيئة، حيث تتوارث الأجيال مفاهيم التفوق والإقصاء، ما يجعل الآخر دائمًا في موقع المستهدف. العنف المضاد، بحد ذاته، ليس سوى  ردة فعل تصب، مكرهة أو مستمرئة، في استمرار لهذا النهج المدمر، حيث يصبح العنف مسوغًا بمزيد من العنف، فتُطمس الحدود بين الضحية والجلاد، ويتحول الصراع إلى دوامة لا تنتهي. ما تشهده المنطقة خلال سنوات الحرب الأخيرة ليس مجرد صراع عسكري، بل هو امتداد لسياسات تحريضية تمارسها دول إقليمية، تدعم وتمول وتجيّش المرتزقة ضد شعوب أخرى، في مشهد يكشف أبشع وجوه الاستغلال السياسي والعسكري.

ومؤكد أن الهجوم على الآخر، سواء بالتحريض أو باستهداف عرضه وشرفه، انحطاط ورذالة لا تليق بأي قضية عادلة. حينما يلجأ طرف إلى تشويه خصومه بالكذب والتخوين والتشهير، فإنه يعكس حالة من الإفلاس الأخلاقي والعجز عن تقديم حجج منطقية. إن أي قضية عادلة لا تحتاج إلى الافتراء والتضليل، لأن اللجوء إلى ذلك ليس سوى دليل ضعف، وعلامة على اهتزاز القناعة بعدالتها. من هنا، فإنه لا بد من وجود روادع قانونية تمنع هذا الانحدار لمن لا يردعه وازعه الأخلاقي. الوازع الذي تشترك في خلقه وتنشئته وزرعه ثقافة: الأبوين- المجتمع، المدرسة- المؤسسة- المحيط العام، لأن ترك الأمور دون ضوابط يشجع على استمرار خطاب الكراهية، ويؤدي إلى انفلات أخلاقي خطير يُفاقم الأزمات ويعزز الانقسامات.

الابتعاد عن المواجهات الإعلامية

لابد من معرفة أن الجدل الإعلامي في زمن الصراعات غالبًا ما ينحرف عن هدفه الأساسي، فيتحول إلى ساحة تراشق وتصفية حسابات، بدلًا من أن يكون فضاءً للحوار الجاد والبنّاء. لهذا السبب، لم أكن ممن يسعون إلى الظهور الإعلامي لمواجهة خصوم أيديولوجيين أو سياسيين، ورغم قلة المرات التي شاركت فيها في برامج تلفزيونية، فإنني كنت أخرج منها مستاءً من الأسلوب السطحي للطرح، ومعاتبًا من دعاني إليها، محذرًا إياه من دعوتي لمواجهات كهذه في المستقبل. في السنوات الأولى من الحرب، وبعد 2011، كان الظهور الإعلامي محدودًا، واقتصر على – ندرة من المساهمين- لأسباب معروفة، لكن ما إن أصبح الأمر اعتياديًا حتى انسحبت تدريجيًا، تاركًا المجال لمن يمتلكون القدرة على هذا النوع من المواجهات.

في محاسن خيار الكتابة

من هنا، فإن الكتابة تتيح لي ضبط انفعالاتي، وتوفر لي مساحة للتأمل والتحليل دون الوقوع في فخ الانفعال اللحظي. لهذا أواصل الكتابة منذ الأيام الأولى للثورة، وما زلت أرى أنها الوسيلة الأعمق والأكثر تأثيرًا، رغم انتشار الإعلام المرئي وسرعة تأثيره. إذ  يمكنني  عبر الكتابة، تفكيك الخطاب الزائف، والتصدي لمحاولات تشويه التاريخ، بعيدًا عن الفوضى التي ترافق النقاشات التلفزيونية.

عود على بدء

ورغم هذا وذاك، فإن محاولات تزوير التاريخ مستمرة، وأعداء الكرد يسعون إلى تصويرهم كدخلاء على أرضهم، بينما يمنّون عليهم بقبولهم كجيران لهم، في مغالطة فاضحة لا تستقيم مع الحقائق التاريخية. حيث لا يمكن التعامل مع هذه القضايا كمسائل قابلة للنقاش العابر، لأن الأمر يتعلق بحقوق شعب وأرض وإنسان مهدد بالإبادة والاقتلاع. لكل معركة فرسانها، والمواجهة الإعلامية تحتاج إلى من هم قادرون على التصدي لدعاة التحريض والإبادة، بينما تبقى الكتابة، رغم تراجع القراءة، أداة قوية تمتلك ديمومتها وفعاليتها الاستراتيجية، في مواجهة الزيف والتضليل، لأنها تمنح فرصة لتقديم رؤية واضحة وعميقة، بعيدًا عن الانفعال والتشويش.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

زاكروس عثمان   دستور ينسف مبدأ المساواة يظهر الاعلامي فيصل القاسم في مقطع فيديو قديم وهو يعلق على صدور دستور في عهد النظام السوري السابق، يخال المرء ان التعليق موجه إلى الاعلان الدستور الجديد الذي اعلن عنه ابو محمد الجولاني رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية، نظرا للتطابق التام بينه وبين الدستور الذي وضعه نظام الاسد، يقول القاسم( من هو ابن…

بيان ارتكبت طائرة مسيرة تركية، ليلة يوم أمس الأحد 16 آذار/مارس ٢٠٢٥، مجزرة مروعة بحق المدنيين في قرية برخ بوتان بريف كوباني الجنوبي، حيث استهدفت بغارة جوية مسكن عائلة تعمل في مجال الزراعة، ما أسفر عن وقوع ضحايا، قتلى وجرحى، من عائلة واحدة معظمهم أطفال، وإصابة اثنين آخرين بجروح متفاوتة، الضحايا القتلى، هم: (آهين عثمان عبدو، دجلة عثمان عبدو، دلوفان…

إبراهيم اليوسف   يبدو أن ما يحدث في المشهد السوري من تناقضات يعيد إنتاج الأخطاء ذاتها التي أسقطت النظام السابق، والتي أدت إلى انتفاض السوريين ضد استبداده. لقد ابتهج جميع السوريين، باستثناء الفاسدين والشبيحة، بسقوط نظام الأسد، لكن ما حدث بعد ذلك من خيبة أمل يجعلنا نعيد طرح الأسئلة الملحة: لماذا خاب أمل السوريين سريعًا؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ حقيقة،…

شادي حاجي   بداية ولكي لا يظل قادة الأحزاب الكردية في سوريا يتفاجؤون ويستغربون ويندهشون دائماً بالأحداث والمصائب التي تحل بالشعب الكردي في سوريا ( الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية .. نموذجاً ) . وألا يظلوا مشتتون لا تربطهم لا أهداف ولا خطة استراتيجية ولا هيئة أو مرجعية تمثيلية ولا رؤية سياسية قانونية مشتركة لحل القضية الكردية في سوريا وأن لا…