بين سيوف الطغاة ومكر الساسة: الأكراد في متاهة الجغرافيا والدم

بوتان زيباري

في أرضٍ تمزّقت أوصالُها بين ظُلم الطغاة وجحيمِ الغُزاة، لم يكن الصباحُ يومًا نذيرَ خيرٍ، بل رسولَ مأساةٍ تتجدد، وجرحًا يأبى الالتئام. دمشقُ تنفضُ رمادَ استبدادها، فلا تجدُ إلا نيرانًا جديدةً تُضرَمُ في الهشيم. هناك، بين أنقاضِ أوهامِ العدالةِ، ووسطَ خرائبِ الرجاءِ، يرفعُ الجلادونَ راياتٍ سوداءَ ويُرددونَ شعاراتِ الخلاص، لكنّهم ليسوا سوى ظلالٍ متبدّلةٍ للوحشِ ذاته.

أما في الشمال، حيث تنبضُ قلوبُ أمةٍ لم تُكسر رغم السيفِ والنار، يَستلّ الغاصبونَ سهامَهم، ويُطلقونها نحو أطفالٍ لم يعرفوا يومًا سوى لغةِ الأمواجِ والشّمس. دمٌ على ضفافِ نهرِ الفرات، وصدى أنينٍ بين أزقةِ عفرين، وتاريخٌ يُعيدُ نَفسَه كما لو كان لعنَةً في سفرِ البشَرِ الأبديّ.

تركيا، سيدةُ المكرِ، تتلوَ بيانَ السلامِ بلسانٍ تقطّرت منه الحروب، وتُقدمُ غصنَ زيتونٍ تخضّبَ بدماءِ المصلوبين. أيُّ سلامٍ هذا؟ سلامٌ يطمسُ الأسماءَ، ويمحو الأوطانَ، ويزرعُ الخوفَ بدلًا من الأمل؟ لو كان للجبالِ ألسنةٌ، لنطقت بالعهدِ القديم، عهدِ الذينَ وقفوا بينَ السّيفِ والسّلاسلِ وقالوا: “لا”.

أما الغربُ، فيرى ولا يُبصر، ويسمعُ ولا يصغي، يتقنُ فنّ الصمتِ حين يكونُ الكلامُ ثمنًا، ويمدُّ يدَ العونِ حين لا يكونُ للعونِ حاجة. يُحاربُ الإرهابَ حينَ يكونُ بعيدًا عن حدوده، وحينَ يكونُ جاثمًا فوقَ صدورِ من لا صوتَ لهم، يغضُّ الطرْفَ ويُشيحُ بالوجهِ، كأنَّ العدالةَ حكرٌ على من يملكُ ميزانها!

لكن، هل تنكسرُ الريحُ حينَ تعاندُها الصخور؟ أم تهدأُ النيرانُ حينَ تتكاثرُ عليها الأيدي الخائنة؟ لا، بل يشتدُّ العزمُ حين تشتدُّ المحن، ويولدُ الفجرُ من رمادِ ليلٍ ثقيلٍ، وترتفعُ راياتُ الذينَ لم يَقبلوا أن يكونوا ظِلًّا في أرضِهم، ولا شتاتًا في أوطانِ غيرهم.

وإن كانت السياسةُ لعبةَ المصالحِ، فإنَّ التاريخَ لا يحفظُ سوى من رفضوا أن يكونوا قطعًا على رقعةِ الشطرنج، أولئك الذين لا يخضعونَ، ولا ينحنونَ، حتى وإنْ تآمرتِ الأرضُ والسّماءُ عليهم.

يا عالمًا يتبارى في تقسيمِ الغنائمِ، أليسَ من العارِ أن تظلَّ دماءُ الأبرياءِ وقودًا لآلةِ الحربِ؟ أليسَ حريًّا بكم أن تتعظوا من دروسِ الماضي؟ فالتاريخُ سَيَحْكُمُ على ضمائرِكم: إمَّا أن تكونوا سدًّا منيعًا في وجهِ الظلام، أو شركاءَ في جريمةٍ تُكتبُ بحروفٍ من دمٍ على صفحاتِ القرنِ. فاخترْوا طريقَكم، واعلموا أنَّ دورةَ الزمنِ قد تعيدُ إليكم ما صنعتْ أيديكم.

السويد
26.02.2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…

ريزان شيخموس بعد سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا فصلًا جديدًا من تاريخها المعاصر، عنوانه الانتقال نحو دولة عادلة تتّسع لكلّ مكوّناتها، وتؤسّس لعقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات السوريين وآلامهم وتضحياتهم. ومع تشكيل إدارة انتقالية، يُفتح الباب أمام كتابة دستور يُعبّر عن التعدد القومي والديني والثقافي في سوريا، ويضمن مشاركة الجميع في صياغة مستقبل البلاد، لا كضيوف على مائدة الوطن،…