بوتان زيباري
في زوايا التاريخ المتشعبة، حين تتصارع إرادات الأمم وتصطدم المصالح المتناقضة، يولد قدر الشعوب التي تسعى لإثبات وجودها وسط دوامة الأحداث. القضية الكوردية، التي لطالما كانت حجر زاوية في معادلات المنطقة، تعود اليوم لتطرح أسئلتها الحارقة عن المصير، لكنها هذه المرة في مشهد مختلف تتداخل فيه السياسة بالمقاومة، والدبلوماسية بالتاريخ، والأحلام بالدماء.
المفارقة العظمى تكمن في أن أطراف الصراع، التي أمضت عقوداً في لغة الحديد والنار، تعود اليوم إلى طاولة الحوار، وكأنها تعترف ضمناً بأن لا انتصار في هذه الحرب الطويلة، وأن التسويات وحدها يمكنها أن تصنع طريقاً أقل وعورة نحو المستقبل. فالحكومة الانتقالية السورية تبحث عن صيغة تعايش مع قوات سوريا الديمقراطية، فيما تشرع تركيا في مفاوضات جديدة مع القوى الكوردية في الداخل، محاوِلة أن تعيد ترتيب أوراقها في ضوء التغيرات الإقليمية. المشهد ليس جديداً تماماً، لكنه محاط بأسئلة قديمة لم تجد أجوبتها بعد.
غير أن الطاولة التي تجمع الفرقاء ليست مصنوعة من النوايا الحسنة وحدها، بل هي محاطة بالبنادق أيضاً، فالمعارك ما زالت مشتعلة، كما لو أن الأطراف تقاتل وتفاوض في آنٍ واحد. عند سد تشرين، حيث امتزجت مياه النهر بدماء الضحايا، يتجسد التناقض العميق بين منطق الحرب ومنطق الحوار. أيمكن للسلام أن يولد من رحم هذا النزاع المحتدم؟ أم أن الصراع قد أصبح قدراً لا مفر منه، كما يحدث حين تبتلع الحروب نفسها ولا تترك للسلام فرصة؟
تجربة عبد الله أوجلان، الزعيم الكوردي الذي مضى أكثر من ربع قرن في زنزانته، تطرح مثالاً آخر على تعقيد المسألة. فهو المسجون الذي لم تُطفأ رؤاه، والمفاوض الذي لا يملك إلا صوته، والمحارب الذي يروّج للسلام. هل يمكن أن تكون إعادة فتح ملفه بداية لتحولات كبرى، أم مجرد مناورة سياسية أخرى في لعبة تتغير قوانينها كل حين؟ حين يلتقي الساسة الأكراد به في محبسه، فإنهم لا يفاوضون شخصه بقدر ما يفاوضون أفكاراً تأبى أن تموت، ومطالب تتوارثها الأجيال.
أما تركيا، التي طالما اتخذت من “الأمن القومي” ذريعة لقمع الكورد، فتبدو اليوم وكأنها تعيد تقييم حساباتها. الأزمة الاقتصادية، المتغيرات الجيوسياسية، وانهيار الخطابات القومية الجامدة أمام حقائق الأرض، كلها عوامل تدفع أنقرة إلى إعادة التفكير في نهجها. لكنها في الوقت ذاته لا تزال تسير على حافة النقيض، فتفتح باب الحوار بيد، وتحمل السلاح بالأخرى. كأنها تحاول أن تروض وحشاً صمَّمته بنفسها، لكنه اليوم يهددها أكثر من أي وقت مضى.
هل نحن أمام منعطف حقيقي في المسألة الكوردية، أم مجرد فصل آخر في كتاب التلاعبات السياسية؟ الأطراف المنخرطة في هذا المشهد تدرك أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه ينسج خيوط الماضي في نسيج الحاضر بطرق جديدة. فالمسألة ليست مجرد مطالب كوردية، بل إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والهوية، بين الماضي والمستقبل.
المعادلة التي تسعى القوى الكوردية لصياغتها ليست سهلة. فهم يدركون أن أي اتفاق لا يُضمن بضمانات دولية قوية سيكون حبراً على ورق، وأن أي خطوة دون تحصينها بواقع سياسي وعسكري متماسك قد تكون مجرد جولة في لعبة الانتظار. التجارب السابقة، من اتفاقيات لم تُنفذ إلى هدنات سرعان ما انهارت، تجعل الحذر سيد الموقف.
وفي وسط هذا التعقيد، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن بناء مستقبل للكورد في سوريا وتركيا دون الاعتراف الحقيقي بحقوقهم؟ التجارب التاريخية تقول إن الإنكار يولد التمرد، وإن التسويات غير العادلة تؤجل الصراعات ولا تنهيها. فما لم يكن هناك إدراك حقيقي بأن الكورد ليسوا مجرد طرف في معادلات القوة، بل شعب له تاريخ ورؤية ومكانة، فإن السيناريوهات المقبلة ستبقى رهينة المصالح الآنية، والتلاعبات التي لم تقدم حتى الآن سوى مزيد من الخراب.
الأيام المقبلة وحدها ستحدد إن كانت هذه المفاوضات بداية لسلام طال انتظاره، أم مجرد استراحة في حرب لم تُكتب نهايتها بعد. فهل ننتظر فصلاً جديداً من المأساة، أم أن التاريخ، هذه المرة، قد قرر أن يمنح الكورد فرصة للكتابة بأيديهم؟
السويد
27.01.2025