حين يُلاحق الماضي ظلّه في مرايا المستقبل

 بوتان زيباري
في مسيرة الحضارات، تتجدد الأمم بقدرتها على مساءلة تاريخها، تفكيك أوهامه، وإعادة تشكيل هويتها وفق متطلبات العصر، غير أن بعض الشعوب اختارت أن تكون حارسةً لماضيها، متوجسةً من كل صوت يدعو إلى إعادة النظر فيما كان. وكأن التراث كتاب مُنَزَّل لا يخضع للمراجعة، أو كأن المستقبل ليس إلا امتدادًا جامدًا لما مضى. وبينما نجح الآخرون في إشعال شرارة النهضة عبر المصالحة بين الإرث والتجديد، بقيت بعض المجتمعات أسيرةً لفكرة أن الزمن يمكن أن يعود القهقرى، وأن المجد لا يكون إلا بتقليد السلف، حتى وإن كانت أدواتهم قد علاها الصدأ.
في العالم الحديث، تضاءلت المسافة بين الإنسان وروحه، فصار الإيمان تجربةً داخليةً سامية، تمنح القوة والطمأنينة، دون أن تتحول إلى أداةٍ لفرز البشر بين مؤمن وضال، أو إلى سلاح يُرفع لتحديد من يحق له الانتماء إلى الوطن ومن لا يحق له ذلك. غير أن في بعض الأوطان، لا يزال الدين يُستخدم كختم على الهويات، كأن المواطنة ليست عقدًا اجتماعيًا بل امتيازًا ممنوحًا بمرسوم غيبي، فيصبح الاختلاف كفرًا، والسؤال تمرّدًا، والحرية نجاسةً تُغسل بالمطاردة والتكفير.
أما السياسة، فقد غدت في العالم المتقدم ميدانًا دنيويًا بامتياز، تُبنى على العقل، تُحكمها المصالح، وتُقوَّم بالنقد والمساءلة، لكنها في أماكن أخرى لا تزال تُغلَّف بهالة المقدس، فتُحرَّم المعارضة، ويُمنَح الحاكم رداءً سماويًا يُحصِّنه من الخطأ، حتى يصير الحكم قدرًا لا يُناقش، والطاعة فضيلة لا تُساءل. في الوقت الذي تدرك فيه الأمم أن السلطة مسؤوليةٌ تُستمد من إرادة الناس، يصرّ بعض المجتمعات على أن الحاكم ظلٌّ للقَدَر، وأن المعارضة رجسٌ من عمل الشيطان.
وحين ننظر إلى المرأة، نراها في بعض الأوطان تقود مسارات النهضة، مساويةً للرجل في الفكر، والإبداع، والعمل، بينما في أماكن أخرى لا تزال تُعامَل ككائنٍ زمنيٍّ متوقف، تُغلَّف بالعادات، وتُحاصَر بالقيود، فلا يُسمَح لها بأن تكون كما تريد، بل كما أُريد لها أن تكون قبل قرون. وإن كانت الأمم قد أدركت أن التقدّم لا يُبنى إلا على إشراك الجميع، فلا يزال البعض يعتقد أن المرأة ظلٌّ لا يملك حقًّا إلا أن يتبع، وكيانٌ لا يكون إلا بصيغة التبعية.
أما الطفولة، فهي في بعض المجتمعات انعكاسٌ للمستقبل، ينشأ الأطفال ليكونوا أكثر معرفةً وانفتاحًا من آبائهم، يتعلمون كيف يضيفون لا كيف يُعيدون إنتاج الماضي، لكن هناك من لا يزال يصرّ على أن يكون الجيل الجديد صورةً طبق الأصل عن الأجداد. كأن الزمن دائرةٌ مغلقة، لا تتقدم بل تدور حول ذاتها، وكأن مهمة الأبناء ليست بناء المستقبل، بل التنقيب عن آثار الأسلاف ونسخها بحذافيرها.
في نهاية الأمر، الأمم الحية هي التي تملك الجرأة على مواجهة ذاتها، على قراءة تاريخها بعين الباحث لا بعين العاشق المُتَيَّم، وعلى الاعتراف بأن المجد لا يُستعاد بالتكرار، بل يُصنع بالابتكار. فهل سنشهد اليوم الذي تُكسر فيه هذه الدائرة، حين ندرك أن أبناءنا ليسوا امتدادًا لنا، بل هم امتدادٌ للمستقبل؟
السويد
26.01.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…