عفرين لدى الإدارة الجديدة

ماجد ع  محمد
“الظلم في مكانٍ ما يمثل تهديداً للعدل في كل مكان”
مارتن لوثر كنج
 
إذا آمنا بأنَّ مفهوم العدل شامل في الأذهان الخيّرة والأشخاص المعنيين بتثبيت قواعدها، فهذا يعني تضمينه الحتمي للمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وإعطاء كل ذي حقٍ حقه في بقعةٍ جغرافيةٍ ما خاضعة لسلطان الحاكم الذي ينشد العدل، لذا يكون من اللامنطقي وقتها قيام السلطة بتطبيق العدالة كاملةً في مكان وتهمل أمرها كلياً في مكانٍ آخر، أو أن تتفاخر بإعلاء شأنها في مكان وتتغاضى عن وضعها التعيس في مكان آخر، أو أن يتم تطبيق العدالة على الضعفاء ومن لا سند لهم، بينما يتم تعليق عملها ولا يتم اللجوء إليها إذا ما تعلق الأمر بأصحاب النفوذ والسلطان، كما أنَّ الغياب الكلي للعدالة في مكان وحضورها الساطع في مكان آخر قد يُفهم بأنه دلالة على المزاجية في ممارسة السلطة واتخاذ القرارات، ويعني ذلك أنَّ العمل يتم وفق الأهواء وليس بناءً على أولوية العدل نفسه، كما أنَّ حضور مفردات الحق والعدل والمساواة في منطقة ما وغيابها التام في منطقة أخرى من نفس البلد هو بداية الشرخ المجتمعي الذي سيترك أثره السلبي في مناطق أخرى من البلد، باعتبار أنَّ الأوادم في هذه الأيام قادرون على إيصال أصواتهم إلى أبعد المناطق، وصحيح أنَّ هذه الإزدواجية في تطبيق القوانين يشعر بها بدايةً فقط الفئة التي هُدر حقها أو أُبعدَ صوتها، إلاَّ أن الشعور بالغبن يتمدَّد مع الزمن ويصل صداه إلى أناسٍ آخرين ومناطق أخرى، ويرسِّخ صورة ذهنية سلبية قادرة على زعزعة الثقة، وقد نُقل في هذا الجانب عن القس الأميركي مارتن لوثر كينغ أنَّ “غياب العدالة في أيّ مكان إنما هو تهديد للعدالة في أيّ مكان من العالم”.
وحيال بعض مبادرات الإدارة الجديدة في سورية، فقد تفاءلنا خيراً كغيرنا بالخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام منذ أيام عن أنَّ نازك الحريري، عقيلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تبلَّغت أنَّ الحكومة السورية المؤقتة تريد تسليم منزل الرئيس الحريري في دمشق للعائلة بعد أن كان نظام بشار الأسد قد صادره بعد اغتيال الرئيس الحريري عام 2005، وهي لا شك خطوة في الاتجاه الصحيح أولاً لمكانة الراحل الحريري، وثانياً هي رسالة للدول المحيطة بأنَّ سورية الجديدة ليست السورية السابقة التي كانت أجهزتها الأمنية تضع يدها على ما ليس لها، وتستولي على ممتلكات الآخرين لأسبابٍ سياسية أو شخصية.
ولكن بنفس الوقت، صحيحٌ أن المسافة بين بيروت ودمشق هي أقرب من المسافة بين الشمال السوري ودمشق، باعتبار أنَّ المرء يصل من دمشق إلى بيروت في غضون ساعتين و12 دقيقة (109.6 كم) عبر أوتوستراد بيروت – دمشق الدولي، بينما للوصول من منطقة عفرين شمالي سورية إلى العاصمة دمشق عبر طريق حلب – دمشق الدولي نحتاج إلى 5 ساعات و19 دقيقة (415.5 كم)، إلاَّ أنَّ ما يجمع عفرين بدمشق هو أكثر بكثير مما يجمع بيروت بدمشق، وبكل تأكيد لسنا ضد المبادرة الحسنة بخصوص إرجاع بيت الحريري، وكذلك الأمر إعادة منزل آل العظم في دمشق لأصحابه، ذلك المنزل المغتصب من قِبل سلطة البعث الحاكم منذ عام 1963، ولكن هذا لا يعني البتة بأن يستفيد الذي في بيروت والذي في دمشق من التغيير الجوهري الحاصل في العاصمة، بينما المئات من أبناء الأطراف في مناطق مثل عفرين ورأس العين وتل أبيض لا يستفيدون من التغييرات الحاصلة في المركز.
وإذا كان الهدف من تلك المبادرة هو تحسين صورة الإدارة الجديدة لدى المشككين بها في الخارج والداخل، فقد يكون الأمر مقبولاً من حيث الغاية طالما تأتي المبادرة في إطار تحسين صورتها بمعطياتٍ حقيقية وملموسة ليعرف القاصي والداني بأنها بخلاف نظام الأسد، أما إذا كان هدف الإدارة الجديدة أن تُظهر من خلال هذه الجزئية البسيطة إفهام الناس في الداخل والخارج بأنَّ العدالة ستأخذ مجراها في سورية الجديدة، فهنا تكون ملاحظتنا غير مجحفة بحق الإدارة، باعتبار أنَّ الداخل أولى من الخارج، أي أنَّ تحقيق العدالة وإحقاق الحق داخل سورية أبدى من تحقيقها للناس الذين ليسوا بحاجة إليها في الدول المجاورة، إذ أنَّ عائلة مثل عائلة الحريري الميسورة جداً ربما آخر همها استلام شقتها في سورية، باعتبار أنَّ الحريري الراحل، رحمه الله، كان يقدم مساعدات سخية لمئات الأشخاص المحتاجين في عموم لبنان، بينما مئات العائلات من أهالي منطقة عفرين الذين نزحوا من بيوتهم في 2018 ما زالوا إلى اليوم ممنوعين من دخول منازلهم التي استولى عليها عناصر وقادة مجاميع مسلطة على رقاب الأهالي، بل وفوقها يطالبون كل صاحب منزل بأن يدفع آلاف الدولارات حتى يتسلّم منزله، فمن أين لأناسٍ يعيشون على المساعدات في المخيمات منذ ست سنوات تأمين تلك المبالغ وتقديمها لذلك المستولي على المنزل بالعنف والإكراه، لذا فإنَّ الناس في الداخل السوري ممن طحنتهم السنوات العجاف هم أولى باستعادة حقوقهم، فعائلة الحريري بغنى عن تلك الشقة بينما الآلاف في عفرين بحاجة ماسة لبيوتهم البسيطة، والسؤال هل إعادة منزلٍ لعائلة ميسورة تمتلك عشرات المنازل مهم في هذه المرحلة، أم إعادة آلاف المنازل المستولى عليها من قبل المسلحين إلى أصحابها المحتاجين إليها أهم؟
كما أنَّ أبواب أعظم الأفرع الأمنية وقلاح المخابرات في سورية فُتحت بُعيد سقوط نظام البعث الحاكم، وتم إطلاق سراح جميع السجناء والمعتقلين، علماً أن ليس كل السجناء كانوا سياسيين أو نشطاء مدنيين، إنما كان بينهم لصوص ومجرمين وقتلة، ولكن مع ذلك تم إطلاق سراحهم، بينما ما تزال سجون منطقة عفرين كما هي، علماً أنها معتقلات كيفية، أي أنَّ المعتقلين فيها إما نشطاء أو هم ممن لم يدفعوا الضرائب والإتاوات لسلطة الأمر الواقع في المنطقة، كما أنَّ معظم المدن السورية تخلصت من الحواجز والمفارز والسيطرات الأمنية، بينما في عفرين ما تزال الحواجز منصوبة كالسابق، والفلاح الذي يود فلاحة أرضه أو جلب ثماره عليه الحصول على موافقة الحواجز الأمنية الكيفية، وإذا كانت معظم المدن والبلدات والمناطق السورية فُتحت على بعضها، ففي منطقة عفرين ما يزال الانتقال من قرية إلى أخرى بحاجة إلى إذن من مجاميع مسلطة على رقاب الناس منذ ست سنوات بالغصب والإكراه.
ويبقى الشيء اللافت في هذا الإطار هو أنَّ نفس القادة الذين سارعوا لمبايعة أحمد الشرع في العاصمة دمشق، وأعلنوا على الملأ ولاءهم له، هم وأوباشهم مَن يمارسون أشنع الرذائل بحق الأهالي منذ 2018 في عفرين وقراها! والسؤال طالما أنَّ أولئك القادة أعلنوا ولاءهم للإدارة الجديدة، فلماذا يتم السماح لهم بالاستمرار باعتقال الأهالي وابتزازهم وفرض الإتاوات عليهم؟ فهل عفرين وأهلها عبارة عن رهينة لدى تلك المجاميع المسلحة إلى أجلٍ غير مسمى؟ أم أنَّ رسائل الطمأنينة المتعلقة بموضوع إرجاع الحقوق وتطبيق العدل والمساواة هي مرسلة فقط للخارج ولبعض لأصحاب رؤوس الأموال من السوريين، أي أنها لا تعني أهالي عفرين ومن في حكمهم في رأس العين وتل أبيض؟ أم أنَّ أهالي عفرين الذين يدفعون منذ ست سنوات ضريبة إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي للمنطقة فترة من الزمن سيدفعون أيضاً ضريبة الوضع في مناطق شرق الفرات إلى أجلٍ غير معلوم؟ وبالتالي تبقى تلك المناطق المذكورة حالياً خارج اهتمامات الإدارة الجديدة من باب التساهُل مع المجاميع المسلطة على أهلها، وكذلك الأمر التغاضي عن مصيرها راهناً كرمى عيون مشغلي تلك المجاميع من خلف الحدود.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…