د. محمود عباس
الأنظمة الدكتاتورية غالبًا ما تبرر تجاوزاتها وجرائمها، رغم إدراكها التام لمصيرها المحتوم. تستفيد هذه الأنظمة من دراسة تجارب مشابهة، لكن الغطرسة تعميها عن رؤية الحقائق.
تركيا تُعد مثالًا على ذلك؛ فعلى الرغم من تبجحها بنظام ديمقراطي برلماني وانتخابات حرة، إلا أنها محكومة بدستور يغرق في العنصرية ومنهجية التفوق التركي.
تتجاهل تركيا ردود الفعل الأمريكية تجاه دعمها للمنظمات المتطرفة، وسعيها لتثبيت نظام إسلامي مركزي متشدد في سوريا، تحكمه جماعات تُدرجها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية ضمن قائمة الإرهاب، مع ذلك تسعى تركيا لدعم أدواتها الإرهابية الأخرى في عفرين وتل أبيض لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بهدف إخراج الولايات المتحدة من سوريا، كما حاولت مع إيران وروسيا.
لا شك أن تركيا من أكثر الدول الإقليمية التي استفادت من زوال النظام السوري السابق، بل استفادت أكثر حتى من المعارضة السورية الوطنية، مما أتاح لها التدخل في شؤون دول الشرق الأوسط، إلا أنها تتناسى أن هذا التدخل السافر قد يؤدي بها إلى مصير مشابه لإيران سياسيًا واقتصاديًا، بل ولربما أكثر، فالبنية الاقتصادية التركية، من حيث الثروات الطبيعية، لا تقارن بما تملكه إيران، وصناعاتها تعتمد بشكل كبير على الشركات الرأسمالية العالمية. كما أن أدواتها ليست بقوة أدوات إيران، ولم تستثمر فيها بالقدر نفسه.
مع إدراكها لهذه الخلفيات، وبموافقة أمريكية، أقدمت تركيا على طرد أدوات إيران من سوريا، متجاوزة في طموحاتها المتضاربة مع مصالح المعارضة السورية الوطنية والمصالح الأمريكية والإسرائيلية، ومتناسية أن هناك قوى قادرة على تحجيم دورها والقضاء على أدواتها، بأسلوب مماثل لما حدث لإيران في المنطقة.
من المرجح أن الولايات المتحدة لن تقف صامتة إذا تعرضت مصالحها للخطر، وستعاقب تركيا على الأقل اقتصاديًا، ورغم أنها دولة مهمة في حلف الناتو، إلا أنها لم تعد الحليف الأهم لأمريكا في المنطقة. تراجعت ضغوطاتها نتيجة الجمود الذي حصل بينها وبين روسيا وإيران، مما أضعف هيمنتها على الناتو وقدرتها على فرض شروطها.
في تعاملها مع الدول العربية، تتبع تركيا نهجًا مشابهًا، مستخدمة القوة والمكر. في الإعلام، تُظهر تقاربًا مع السعودية، خاصة في مجالات مساعدة سوريا والتفاهم على مسارها السياسي القادم، حيث يقدم الطرفان المساعدات الإنسانية والسياسية. لكن في الواقع، وبسبب دعم تركيا للمنظمات المعارضة واحتضانها للمهاجرين، تتجلى المنافسة الحادة بينها وبين العالم العربي على محورين:
-
المحور السياسي: تسعى تركيا لخلق عالم عربي ضعيف ودول هشة، لتتمكن من التحكم بالشرق الأوسط، والهيمنة انطلاقًا من سوريا وليبيا وغيرها. لكن الرد الحاد، بعكس الجمود الأمريكي، يأتي عادة من السعودية ومصر سابقًا. كثيرًا ما يطفو على الساحة الصراع على قيادة العالم الإسلامي السني، مما خلق خلافات حادة بينهم على مدى أكثر من عقد. ولعدم نجاح تركيا في هذا المسعى، تحاول الآن الهيمنة بالأسلوب الإيراني، من خلال خلق أدوات من القوى العربية، جلها إسلامية متطرفة، مما سيواجه معارضة حادة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وربما أوروبا، كما حدث مع أدوات إيران.
-
المحور الاقتصادي: تمكنت العديد من الشركات التركية من التغلغل في الأسواق العربية، وفي العقد الأخير بدأت تروج لصناعاتها العسكرية، من طائرات “بيرقدار” إلى طائرة “آقا” التي تُروج على أنها تنافس الـ F-35 الأمريكية. عقدت تركيا صفقة مع السعودية لبيع 100 طائرة، وبدأت تتحكم في أجزاء من الأسواق العربية، مما سيخلق حتمًا مواجهة مع المصالح الأمريكية في المنطقة، وتهديدًا للأمن الإسرائيلي.
-
مخططات تغيير البنية الجيوسياسية للشرق الأوسط: لمنع امتداد الصراعات إلى العمق التركي، تحاول أنقرة التحكم في مسار الربيع العربي والصراعات الإقليمية كخطة دفاعية لحماية نفسها. استخدمت عدة استراتيجيات، منها محاربة القوات الكردية في غرب كردستان، وإشغال شريحة واسعة من المعارضة السورية، بتحويل مسارهم من إسقاط النظام إلى محاربة الكرد. ورغم سيطرة “هيئة تحرير الشام” على أجزاء من سوريا، تظل تركيا متمسكة بأدواتها من المنظمات الإرهابية لمحاربة الكرد، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار المتوقع في سوريا. فشلت تركيا في جلب قوى عربية إلى صفها في هذا التوجه المعادي للكرد، بما في ذلك الأردن والسعودية.