ولكن، ولأن القاموس الشوفيني لم يعرف يوماً معنى ودلالات الشراكة والتعددية القومية والسياسية، فقد استقبل التنظيم الجديد بالقمع والاعتقالات والملاحقات التي شملت المئات من كوادره وإجباره على اللجوء للعمل السري مما أثر سلباً على حياته الداخلية وإعاقة تطوره الفكري والتنظيمي، وتسبب في انتعاش ظاهرة التشتت التي ساهمت في تعميقها مجموعة من العوامل، كان منها انعدام الشفافية داخل كل تنظيم مما نجم عنه بالتالي غياب المناخ الديمقراطي اللازم لتفاعل الآراء بين الأعضاء والهيئات، والذي يعتبر ضرورياً لاكتشاف المواهب والكفاءات، بالتوازي مع تحديد مواقع الضعف والخلل، واختيار الكوادر الجديدة والبديلة لقيادته ، إضافة إلى العامل الكردستاني الذي كان له تأثير في عملية التشتت نتيجة الإنكار والقمع الشوفيني الذي دفع الحركة للالتجاء للبعد القومي، بكل ما يعني ذلك، من الانخراط أحياناً في محاور كردستانية مختلفة، وأحياناً متصارعة، انعكست سلباً وانشقاقاً في الداخل الكردي السوري، كما أن عجز الحركة الكردية عن تحقيق أي مكسب ملموس لجماهيرها أضاف عاملاً ذاتياً متّهماً بالتقصير، ومبرراً لدعوات التغيير والانشقاق.
وهكذا تتالت الانشقاقات ليصل عدد التنظيمات إلى رقم لا يبرّره منطق سياسي أو تباين اجتماعي أو اختلاف فكري أو ضرورات نضالية،وتصاعدت معها حدة الصراعات الحزبية ووتيرة المهاترات الجانبية
التي ألهت الحركة الكردية ولا تزال وفرضت عليها العزلة لتنغلق ردحاً طويلاً من الزمن على نفسها، وتبتعد عن اهتماماتها الوطنية مقابل انجرار قسم منها نحو الخارج الكردي بدلاً من الانخراط والمساهمة في النضال الديمقراطي الكردي السوري، وانتعشت في ظل هكذا أجواء بعض الأفكار التي تنقصها الحكمة والواقعية، وتنامت أحيانا بعض الشعارات غير المنسجمة مع الثقافة السياسية الكردية، والتي تخاطب العاطفة دون أي حساب لإمكانات التطبيق أو اعتبار لمنطق الربح والخسارة، فكانت النتيجة خلق حالة من التردد، وأحياناً التشنج وردود الأفعال السلبية، لدى العديد من المثقفين وعناصر النخبة السورية المتفهمة لعدالة القضية الكردية.
في الوقت الذي كانت تقتضي فيه المصلحة الوطنية التأكيد على مصداقية وواقعية الطرح السياسي الوطني الكردي وسحب الذرائع من تحت أقدام الشوفينية والتأكيد دائماً على أن القضية الكردية هي قضية وطنية بامتياز، وهذا يتطلب، ليس فقط انجاز المرجعية الكردية، بل كذلك البحث لها عن مكان وطني مناسب تطبيقاً لمقومات الشراكة الوطنية والانتظام، مع أطراف المعارضة الوطنية الأخرى، ضمن أطر نضالية تحالفية وفق برامج موضوعية منصفة، ومن هذا المنطلق ولد إعلان دمشق للتغير الديمقراطي السلمي الذي جاء إثر يأس القوى المؤتلفة من إمكانية إقدام السلطة على التغيير المنشود، وعجزها عن القيام بإصلاحات ملموسة، بما في ذلك العجز عن إيجاد حل عادل للقضية الكردية التي تمر الآن بمرحلة حساسة ودقيقة، بات معها لزاماً على الحركة الكردية مواكبة المستجدات والتصالح مع الذات ومع الشركاء وتحسين الشروط الموضوعية التي استجدت، والاستعداد لمواجهة أية تطورات متسارعة قد يحملها المستقبل، وذلك بالبحث والعمل على توحيد وتنظيم الطاقات الكردية وصولاً لبناء ممثلية تكون بمثابة مرجعية كردية تنبثق عن مؤتمر وطني كردي بمشاركة ممثلي الفعاليات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ودون إقصاء لأي حزب.
تلك المرجعية التي نرى أنها لا تزال تبقى مطلوبة وقابلة للتحقيق رغم الفتور الذي يحيط بالجهود الرامية لبنائها، وقد يعود سبب التباطؤ في إنجازها الى أن عناصرها وشروطها الضرورية لم تستكمل بعد، أو أن آلياتها لا تزال بحاجة للمزيد من الإنضاج، أو أن إرادة التلاقي لا تزال غير كافية رغم تزايد الوعي لدى جماهيرها التي بدأت تدرك أن المهاترات والصراعات الثانوية التي حكمت العلاقات بين العديد من الأطراف، ماضياً وحاضراً، قد هدرت أوقاتاً ثمينة، وطاقات لا يستهان بها، وتركت جروحاً عميقة، مثلما تدرك بأن الحوار هو اللغة الصحيحة التي يجب أن تسود العلاقة بين فصائل هذه الحركة التي تحتاج لتعاون جميع أطرافها لتذليل العراقيل التي تعترض طريقنا الى وحدة الموقف الكردي وزرع الثقة المتبادلة التي تعتبر شرطاً أساسياً لإنجاح مهمة التلاقي على أرضية برنامج سياسي موضوعي يتلاءم مع المتغيرات الجديدة، ومع مصلحة شعبنا الكردي، ومع خطورة المرحلة، حيث تزداد المخاطر وتتكاثر المشاريع والمراسيم والقوانين الاستثنائية، ومع إمعان السلطة في المضي قدماً بتطبيق مخططاتها في المناطق الكردية التي تعاني من موجات الهجرة الطوعية العاملة على إحداث تغيير ديمغرافي خطير، ومن تصعيد أمني شديد يستمد أسبابه من فشل السلطة في كبح إرادة النضال لدى شعبنا، رغم لجوئها لمختلف السبل التي تنوعت وتصاعدت بعد أحداث آذار الدامية عام 2004 بما فيها القتل العمد في نوروز 2008 والمرسوم 49 الذي يبيح للمواطنين الكرد بيع ما يملكون دون أن يتسنى لهم امتلاك ما يريدون، وغير ذلك من الإجراءات والسياسات التي لا تبدو لها نهاية، مما يضيف ضرورات أخرى الى الإسراع في بناء تلك المرجعية التي طال انتظارها، والى توفير الإرادة الواعية التي لا تزال تفتقر لها..ومن هنا انطلق مشروعنا في المجلس العام للتحالف (نحو عقد مؤتمر وطني كردي في سوريا) ، تعبيراً عن إرادة جماهيرنا، وتجسيداً للعديد من القرارات الصادرة عن التحالف الديمقراطي الكردي والهيئة العامة للجبهة والتحالف، التي أنجزت مشروع الرؤية المشتركة مع لجنة التنسيق، وأجمع الكل على انبثاق تلك المرجعية من المؤتمر، الذي يشارك فيه المستقلون بنسبة عادلة يمكن الاتفاق عليها،إلى جانب اشتراك ممثلي مختلف الأحزاب بالتساوي.
ويتمخض عنه مجلس سياسي منتخب يقود النضال الوطني الكردي وفق البرنامج السياسي المقرر.
* الجريدة المركزية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)– العدد (191) حزيران / 9 200