مستقبل سوريا: بين فكر هيئة تحرير الشام وصرخة الشعب

 بوتان زيباري
في متاهة التاريخ السوري المعاصر، يبرز صراع مركب بين إرادات متشابكة؛ إرادة تسعى لاستعادة كرامة الوطن، وأخرى أسيرة لأوهام السيطرة المطلقة. عند قراءة كتاب “اغتصاب العقل” لجويت إبراهام ماوريتز ميرلو، ندرك كيف تُستخدم سيكولوجيا التحكم في الفكر وتشويه العقل كأدوات مركزية في توجيه الشعوب، وبالأخص في حالة سوريا حيث تتقاطع المأساة مع العبث السياسي. قد يبدو الحديث عن مستقبل سوريا في ظل تفكير جماعة هيئة تحرير الشام من جهة والشعب السوري من جهة أخرى كمن يحاول فك شفرة معقدة وسط ضباب كثيف.
إن جماعة هيئة تحرير الشام، التي ظهرت في سياق النزاع السوري كقوة مؤثرة مسلحة، لم تكن مجرد كيان عسكري، بل مشروع أيديولوجي يرتكز على آليات غسل الدماغ وتشويه الهوية الفكرية. فالجماعة استطاعت، بأساليب مُحكمة، أن تفرض سردية أحادية تعتمد على بث الخوف وتوظيف الدين كسلاح، مما يتقاطع بشكل لافت مع ما وصفه ميرلو في تحليله لآليات السيطرة الفكرية. في حين يظهر الشعب السوري كضحية رئيسية في هذه المسرحية المأساوية، يتجلى أمامنا نموذج الإنسان الذي يتعرض يوميًا لضغوط نفسية هائلة؛ الخوف من الموت، الفقر، فقدان الأمل، والأهم من ذلك، الضياع الفكري بين روايات متضاربة.
لقد أصبح السوري العادي، الذي كان في يوم ما حالمًا بمستقبل مشرق، محاصرًا في دائرة مفرغة من التناقضات الفكرية. هنا يتبدى ما أسماه ميرلو بـ”تشويه العقل”، حيث تُستبدل الحقائق الواضحة بأوهام مقصودة، فتتلاشى الحدود بين الصواب والخطأ، وبين الصديق والعدو. الشعب السوري لم يُغتصب عقله فقط، بل سُرقت ذاكرته الوطنية، وحُرّف مسار نضاله لتُستخدم معاناته كأداة سياسية.
إن مستقبل سوريا مرهون بمدى قدرة شعبها على استعادة استقلاله الفكري. فبين خطاب جماعة هيئة تحرير الشام المبني على التشدد والاستبداد، والخطاب السياسي المهترئ للنخب التقليدية، يواجه الشعب تحديًا أخلاقيًا وثقافيًا لإعادة تعريف هويته. يشير ميرلو إلى أن الوعي الذاتي والقدرة على التفكير النقدي هما الأسلحة الأهم في مواجهة محاولات غسل الدماغ. فهل يستطيع السوريون إعادة بناء وعيهم الجماعي رغم هذا الكم الهائل من الخراب؟
ربما يكون المستقبل السوري معلقًا بخيط رفيع، لكنه ليس مستحيلًا. إذ أن التجارب التاريخية تُعلمنا أن العقل المُغتصب يمكنه أن يشفى، وأن الوعي المُشوَّه يمكنه أن يُصلح. في نهاية المطاف، تبقى الحقيقة الأهم أن أي حل مستدام يبدأ بتحرير العقل قبل الأرض، وبإعادة بناء الإنسان السوري قبل إعادة بناء الجدران المهدمة.
السويد
05.01.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بناءً على دعوة كريمة من فخامة الرئيس مسعود بارزاني، عقد وفد من هيئة رئاسة المجلس الوطني الكردي في سوريا لقاءً مع فخامته ، حيث جرى في هذا اللقاء تبادل وجهات النظر حول المستجدات الإقليمية والدولية، وبشكل خاص الأوضاع في سوريا بعد سقوط النظام السابق. وتم خلال اللقاء التأكيد على أهمية مشاركة الشعب الكردي في رسم مستقبل البلاد ، وضرورة وحدة…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)* مثل العديد من الألعاب، تعتبر لعبة “الدومينو” لعبة مثيرة وهادفة تعكس حقيقة قاسية للبشر. عندما تبدأ، تنتهي. ربما يشير مصطلح “بداية النهاية” إلى هذا الأمر. إلا إذا كان هناك عامل يمكن أن يوقفها. عامل عادة ما يكون في يد مصممها! لكن هل هناك قائد في الشرق الأوسط يستطيع قلب الطاولة لصالحه؟ إن إطلاق شرارة لعبة الدومينو…

د. محمود عباس في لقائه الصحفي الأخير اليوم، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سوريا، كرر خطأ مشابهًا لأخطائه السابقة بشأن تاريخ الكورد والصراع الكوردي مع الأنظمة التركية. نأمل أن يقدّم له مستشاروه المعلومات الصحيحة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تاريخ الأتراك والصراع بين الكورد والأنظمة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. للأسف، لا…

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…