إنها مقومات حرب أهلية: مقدمات بغددة دمشق

إبراهيم اليوسف
ليس خافياً أن سوريا ظلت تعيش، بسبب سياسات النظام، على صفيح ساخن من الاحتقان، ما ظل يهدد بانفجار اجتماعي واسع. هذا الاحتقان لم يولد مصادفة؛ بل كان نتيجة تراكمات طويلة من الظلم، القمع، وتهميش شرائح واسعة من المجتمع، إلى أن اشتعل أوار الثورة السورية التي عُوِّل عليها في إعادة سوريا إلى مسار التأسيس ما قبل جريمة الاستحواذ العنصري، إلى أن حرفت بوصلة الثورة وسط التدخلات التركية، الإيرانية، والروسية. أما ما يجري اليوم تحت ذرائع مقاومة النظام أو اجتثاث جذوره، فهو مشروع خطير يحمل في طياته بذور حرب أهلية قد تأكل الأخضر واليابس، وتمتد لعقود.
الساحل السوري: مأساة مرشحة للتصعيد
منطقة الساحل، التي طالما شكلت جزءاً مهماً من الخريطة السورية، تعيش أجواء مشحونة تحت دعاوى اجتثاث فلول النظام. تسود فيها لغة الانتقام، لا العدالة، ما يزيد من انقسام المجتمع وتعميق الجراح الطائفية. فالفظائع المرتكبة التي تُوثَّق عبر مقاطع فيديو مروعة، تتداولها الأيدي بلا اكتراث.  وتتردد خلالها عبارات تحريضية مثل “النصيرية”، “الخنازير”، و”العلوية” لتقتحم الوعي الجمعي، وتفتح أبواب الكراهية على مصراعيها. هذا الخطاب المدمر لا يستثني أحداً، إذ تمتد تهديداته لتشمل الكرد وغيرهم من المكونات، ما يُعزز الإحساس بالخطر الوجودي لدى جميع السوريين، بلا استثناء. رغم أن الحل الأمثل  يكمن في السعي لتقديم كل متورط بالانتهاكات والفظائع إلى  المحاكم، لا الثأر الميداني، كما يتم.
 
العدالة الانتقالية: ضرورة مغيَّبة
تغيب في خضم هذا الواقع المرير تلك الدعوات الجادة إلى تحقيق عدالة انتقالية حقيقية. فبدلاً من أن يكون هناك حوار شامل يُفضي إلى محاكمات عادلة لكل من تورط في الجرائم، إلا أنه تُغلب لغة الثأر على لغة القانون.  رغم أن العدالة الانتقالية ليست ترفاً؛ بل إنها ضرورة ملحة لإعادة بناء الثقة بين مكونات الشعب السوري. وإن أية محاولة لتجاهلها أو استخدامها كذريعة للانتقام ستُعيد البلاد قرناً إلى الوراء، لتصبح بلادنا ساحة لصراعات متجددة، طويلة الأمد لا تخدم إلا أعداء الوطن.
درس العراق: الماضي يحذر المستقبل
ما يحدث اليوم في سوريا يبدو كأنه نسخة مكررة من السيناريو العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين. إنها عرقنة سوريا. أو بغددة دمشق. إذ تم تفكيك مؤسسات الدولة، وتهميش شريحة واسعة من المجتمع، ليعاد تركيبها وفق رؤية تمرر بأنها: ابنة مرحلة انتقالية!، ما أدى إلى موجة من العنف والتطرف، لا تزال المنطقة تعاني من تبعاتها. الدروس المستفادة من العراق تؤكد أن الحلول السطحية، التي تعتمد على الثأر لا على المصالحة، ستقود إلى فوضى عارمة يصعب احتواؤها.
رجال المرحلة الانتقالية: إعادة إنتاج الفشل
المرحلة الانتقالية، التي يُفترض أن تكون فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، بات يخشى أن تغدو في أيدي أشخاص مقرَّبين من النظام السابق أو أصحاب أجندات خاصة. هؤلاء ليسوا سوى امتداد لمنظومة فاسدة تعيد إنتاج ذاتها، ما يُفقد العملية الانتقالية مصداقيتها. إن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم بأدوات الماضي، بل يحتاج إلى وجوه جديدة قادرة على بناء مستقبل مختلف، تعمل بحنكة وحرص على تجاوز كل ما يذكر أو يستعيد هيمنة وتسلط واستبداد وعنف آلة النظام.
نحو سوريا جديدة: دعوة للسلام
ما يحدث اليوم لا يبني وطناً؛ بل يُعمق الشرخ بين أبنائه. سوريا المستقبل لن تُبنى بالانتقام، ولن تستقر بالكراهية. المصالحة الوطنية الشاملة، القائمة على الحوار والعدالة، هي السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد من الغرق في مستنقع الحرب الأهلية. وهنا، فإنه على جميع السوريين إدراك أن الانتقام لن يجلب الأمن والأمان، وأن الثأر لن يُعيد الكرامة. ما نحتاجه هو مشروع وطني جامع يُنقذ سوريا من دوامة العنف، ويؤسس لدولة حديثة تحترم جميع مواطنيها، بغض النظر عن انتماءاتهم.
لأن سوريا تقف- في الحقيقة- على مفترق طرق تاريخي؛ فإما أن تختار طريق المصالحة والعدالة، وإما أن تغرق في مستنقع لا قاع له. العقلاء في هذا الوطن هم الأمل الوحيد لإيقاف هذا الانحدار الخطير، وفتح صفحة جديدة من التعايش والسلام.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…

ريزان شيخموس بعد سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا فصلًا جديدًا من تاريخها المعاصر، عنوانه الانتقال نحو دولة عادلة تتّسع لكلّ مكوّناتها، وتؤسّس لعقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات السوريين وآلامهم وتضحياتهم. ومع تشكيل إدارة انتقالية، يُفتح الباب أمام كتابة دستور يُعبّر عن التعدد القومي والديني والثقافي في سوريا، ويضمن مشاركة الجميع في صياغة مستقبل البلاد، لا كضيوف على مائدة الوطن،…