إبراهيم محمود
سقط النظام السوري ممثَّلاً في شخص بشار حافظ الأسد، كما سقطت قبله أنظمة منِحت ألقاباً أسطورية وتأليهية، وأصبحت في غياب النسيان من جهة، ولعنة التاريخ من جهة ثانية، لحظة التعرض لها، وهي بفظائعها، ونهايتها الوخيمة .
سقط النظام بعد معاناة، بعد حقبة ” أسدية ” تجاوزت نصف قرن في عمرها ، حقبة كان لها سماتها في القتل والطغيان والنيل من المعارضين لها، وهي العلامة الفارقة لها” الحقبة ” ولكنها شاهدة على بطشه بأكثر من معنى، تذكيراً بقول مأثور” يدوم الكفر والظلم ما يدوم ” حكمة تاريخية يصعب التأريخ لها، ولكنها إنسانية ودالة على أن الظلم ممثلاً في شخص، أو نظام، أو جماعة معينة، يستنفد قواه ، قابليته على الاستمرار، فيفقد رصيده، ويصبح ” اكسباير” زائلاً.
أنا لا أدخل في التفاصيل، وإنما أشير إلى ما كان، وكغيري من ملايين السوريين، بكل مكوناتهم القومية والدينية ، أعبّر عن فرحي بما جرى في ليل ( 7-12-2024 )، كما لو أننا وُعِدنا أو نُوعَد بعام جديد نتمناه عام عقد مجتمعي جديد يضم السوريين جميعاً، وما جرى حتى الأمس القريب، وما يجري النظر فيه، يكون درساً مفيداً مستقى مما كان واستعداداً لبناء مجتمع مغاير.
سقط النظام، ولم يسقط بعد. وهنا أتحدث عما ورثه النظام الأسدي البعثي العروبي من أنظمة سابقة عليه من مظالم، وأضاف إليها ما يجعلها معرَّفة به، أكثر مما يستحق التقدير ، لحظة التذكير بالمجتمع الذي جرى فيه ” إفساد ما لم يفسَد بعد ” بتعبير المفكر الراحل ، أستاذي الجامعي ” طيب تيزيني “، وهذه التركة الثقيلة في صنوف العنف، وسياسة ” فرّق تسد ” المنمَّاة، تركة يعلم كل معني بما جري، أنها أكثر من كونها ورماً خبيثاً في الجسد ” السوري ” نظير سواه في محيطه الجغرافي، وبصيغ شتى في مناطق مجاورة وأبعد، على صعيد كيفية: بناء مجتمع موصوف بكل ما ينزع عنه ما هو إنساني واقعاً.
بناء عليه، فإن سقوط النظام، لم ينته بعد، ونحن لا زلنا في الساعات الأولى من التعبير عن ذلك، وثمة جيوب مواجهة، ثمة ممن لا زالوا مأخوذين بالوهم ذي النسب التاريخي والنفسي عن أن النظام لم ولا يسقط، وفق مقولة ” الأسد إلى الأبد ” أي تأليه من لا يمكنه التأله، وجرّاء خضوعهم للضخ المستمر لما هو عقائدي، طائفي، إيديولوجي مركَّز، وعروبي موجَّه.
أتحدث ككُردي وسوري. أما عني ككردي، بداية، لعلْم من لا يريد أن يعلم، فلأن الأنظمة الممثلة في دول مصطنعة، بمقاييس استعمارية وما بعد استعمارية ” لنذكّر بـاتفاقية سايكس- بيكو ” وتبعاتها، وتجاهل الكردي في حضوره الجغرافي والتاريخي، كما لو أنه استثناء بني آدم، أي استثناء القاعدة، حيث إن شهادة هذا الاستثناء كافية، لحظة النظر فيها، على أنه استثناء من داخل التاريخ، ويعرّي كل ما يخص القاعدة تلك أخلاقياً وإنسانياً. ولكَم عاش، ولازال الكردي يعيش رعب هذا الاستثناء، وأمل الاستثناء الموعود، ومخاوف الاستثناء المرتقبة، ولاأخلاقية القاعدة القائمة في واجهة تاريخ المنطقة. وكسوري، وهنا أعنيني مجزءاً، وفي الوقت نفسه، منتمياً إلى جغرافية مركَّبة، وأطمح إلى أن يكون المرتقب القريب مغايراً لما كان، في البناء المشترك وبعيداً عن أي تفريق قومي، مذهبي وديني، أي في مجتمع مديني قادم، وهو ما أتخوف منه، ولي حجتي، وهي تتمثل في كيف يمكن لمن لا يخفون تشددهم الديني وحتى معتقدهم الإسلاموي، يتقدمهم سلاحهم في التهديد بالقتل، قبل لسانهم في الطمأنة المفترضة. كيف يمكن لهؤلاء الذين تخرجوا من جامع مختزل دينياً، وتأطير دين حسب الطلب، ومع صيحة مستمرة ” الله أكبر ” والكرد في واجهة من كانوا ضحايا سياسة كهذه، فبأي مسوّغ يمكن لهؤلاء أن يكونوا رصيد الوعد لسوريا الجديدة، دون المزيد من إراقة الدماء ” وِحامها “، دون النظر إلى الكردي، كما هو المقروء والملموس في أدبيات هؤلاء المأخوذين بالتطرف والإرهاب في تاريخهم ، على أنه ” كافر، ملحد، ومنافق ..” وفي الوقت الذي يشهد تاريخ كامل، وحتى الآن في الداخل السوري وخارجه، على أن الذي يستحق تمثيل الإسلام، نسَبياً، كما هو متردد عن مزاياه دينياً، هم الكرد قبل غيرهم، وفي روجآفا كردستان ” التسمية التي تثير جنون أغلب ” أخوة الدين الحنيف ” من العرب، حتى أكثرهم ادعاء بالديمقراطية ساسة وكتاباً وغيرهم” في روجآفا المثل القويم ؟!
سقط النظام ولم يسقط بعد، وبالنسبة لنا ككرد بصورة رئيسة، حيث يجري ترقّب ما يمكن أن يحصل في روجآفا هذا، وثمة عيون تقدح شرراً، تعبيراً عن تعالٍ قومي وعنصري، تركياً وعربياً وفارسياً، ويذكّرني، كما يذكّر ذلك، بما جرى على وقْع سقوط نظام الطاغية صدام حسين، فالذين عبَّروا عن ابتهاجهم بسقوطه، كان تعبيرهم عن خوفهم وتوترهم الداخليين أكثر، تجاه الجاري بالنسبة للكرد في إقليم كردستان العراق، أي ما يمكن أن ينالوه من حقوق مشروعة تعنيهم، وهي مرفوضة في مجملها من أولئك، وإلى الآن، رغم الاعتراف القانوني، رغم شكلانيته بهم كشعب. فكيف الحال في روجآفا، في ” شمال شرق سوريا “، وثمة تركيا تعيش هستيريا اللحظة القادمة، وخفايا المخطط الموضوع للقادم قريباً حول ذلك، وهكذا الحال بالنسبة للآخرين، مما يشكلون ما يسمى بـ” الائتلاف السوري ” ومن خلال الفصائل المسلحة واقعاً؟
تُرى، هل ستكون اتفاقية سايكس- بيكو، بنسخة مستحدثة، وذات دمغة محلية، رغم إشرافها الدولي هن وهناك؟
ما أتمناه، كغيري من الملايين كرداً وغيرهم، هو أن نشهد بناء سوريا جديدة، تتعظ من ماضيها الذي لازال يُعرَف بالكثير مما يسميه عنفاً وخوفاً من الحياة، ويكون تركيزها على آتيها بمزيد من التلاحم السوري ” الوطني ” والتشارك في الحقوق والواجبات، في نظام لا يعيش نشوة إيديولوجيا ” أنا سوري وأرضي عربية ” أو ” الأرض بتتكلم عربي ” إذ وراء هاتين العبارتين: الشعارين المتعاليين، شهدنا كما عشنا مآس فظيعة، وجروحها لم تندمل، وضحاياها دون حصر، والذاكرة الجماعية السورية مشهود لها بالكثير من الآلام والأوجاع والهواجس المقلقة، والكوابيس وخوف: وماذا بعد ؟ نعرف ماذا بعد سقوط النظام، حيث أصنام التفكير والتعبير والمعتقدات المذهبية والفصائلية والقومية مشهود لها بالانتشار هنا وهناك؟؟؟!!!
دهوك-مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك