ماجد ع محمد
غير خافٍ على قاطني هذه البلاد ممن يتابعون المجريات منذ انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي، أن الصورة الدموية التي قدمتها الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش) خلال السنوات الفائتة جعلت الناس في الغرب والشرق على حدٍ سواء تخاف من المتشددين وترتعب العامة من رؤية ملامحهم وحتى من مجرد ذكر اسمهم، وهو ما دفع بالعالم إلى أن يهلِّل للشبه معتدلين، علماً أن الكثير من مجرمي وطغاة العالم ليسوا فقط معتدلين، إنما وكانوا لادينيين أيضاً.
كما أن الفصل الأخير من المجريات في محافظة حلب السورية عَكَس تلك الآية، إذ أن الناس في المدينة إلى وقت كتابة هذه الأسطر تشعر بالأمان على أرواحها وممتلكاتها أكثر من وقت سيطرة الشبه معتدلين على أحياء كبيرة من أطراف المدينة في 2013، وهذا دليل على أن القيمين على عملية “ردع العدان” يعملون على تحسين صورتهم أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، بينما الشبه معتدلين فإن عدداً كبيراً من قادتهم وعناصرهم لم يغيروا شيئاً ممن ممارساتهم النتنة على الأرض إلى تاريخ اللحظة، لذا لا يُلام الشعب إذا ما اختار الهيئة بدلاً من الفريق الآخر الذي يُذَكِّر سكان المدينة جيداً بالذي فعلوه فيها عندما اقتحموا المدينة باسم التحرير قبل أن يستعيد النظام المدينة منهم، ولا يُلام المواطن الذي يتجرع الويلات منذ 13 سنة حين يشعر بالأمان في ظل الهيئة المتشددة بما أنهم جربوا الشبه معتدلين طوال السنوات السابقة، وحق المواطن أن يميل للجهة التي يشعر بالأمان في ظلها ولو كان على خلافٍ ديني وفكري وسياسي معها، ولسان حال الكثير منهم يقول: اسأل مجرب ولا تسأل حكيم.
وما يلفت الانتباه حين المقارنة بين الانتهاكات والممارسات الهمجية السابقة والحالية، بين هذا الفريق الذي دخل بقوة وتلك الفرق التي شوهت اسم الجيش الحر الذي كان محط احترام وتقدير معظم السوريين في العام الأول من الحراك الجماهيري في سورية، إذ أن التصرف الأخرق الذي قام به أحد عناصر الهيئة قوبل مباشرةً بالرفض والاستنكار وذلك عندما قام عسكري همجي بتحطيم شجرة الميلاد في كنيسة “القديس مار جرجس” بمدينة حلب، إذ أن الهيئة لم تتجاهل الحادثة ولا برَّرت تصرف ذلك العنصر، ولا قالت إنها أتت في سياق التصرفات الفردية كما تفعل باقي الفصائل منذ 2013، إنما قامت على الفور بتصويب الموقف وأتوا بالشجرة ونصبوها من جديد مع تزيينها أيضاً، بينما على مدار ست سنوات لم تستطع كل الجهات الفاعلة في المعارضة وقف الانتهاكات والاعتداءات المتكررة على المدنيين في منطقة عفرين، بل وبدلاً من محاسبة الفاعلين كانوا يدرجونها ضمن التصرفات الفردية، علماً أنَّ التصرفات كانت تتم في إطار جماعي كبير وليست فردية على الإطلاق كما يزعمون، إذ أنَّ كل الجهات المعنية في الشمال السوري لم تقدر على لجم أو ضبط منتهكي الحرمات وفارضي الضرائب والأتاوات بالعنف والإكراه، وهنا من الطبيعي أن يُفضِّل حتى المواطن اللاديني حكم هذه الجهة المتشددة على حكم أولئك الشبه معتدلين الذين أرهقوا الناس بالضرائب وأمعنوا ويمعنون في إذلاهم منذ ست سنوات.
وكيف تُقنع الناس بأنَّ أبا محمد الجولاني سيء والفصائل الشبه معتدلة جيدة في الوقت الذي يرى المواطن كيف وَضَعَ الشبه معتدلون أياديهم على بيوت الناس وممتلكاتهم وكيف زرعوا في كل قرية أمنية خاصة بالفصيل تعتقل من تشاء، وتهين من تشاء، وتبتز من تشاء، من دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب من أمنياتهم الفصائلية، هذا عدا عن تجوالهم المقرف بكامل عتادهم الحربي في كل مكان، حيث أن المشاهد الدالة على المدنية في الشمال السوري صارت شبه نادرة، بينما إدارة العمليات العسكرية للهيئة، وبعد أربعة أيامٍ فقط من السيطرة على مدينة حلب، أعلنت منع التجوال داخل المدينة بالمظاهر العسكرية المسلحة – اللباس العسكري والآليات العسكرية والسلاح القتالي – ما قد يؤديه ذلك من ترويع للأهالي؛ ومنع فتح أي بيت أو مسكن أو عقار أيا تكن ملكيته دون مراجعة اللجنة المكلفة بتسيير أمور المدينة؛ ومنع فتح مقرات عسكرية في الأحياء المدنية!
وفي ما يتعلق بحيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، فبالرغم من أنَّ الهيئة أحكمت قبضتها على كامل مدينة حلب ومعظم ريفها، إلاَّ أن بعض مسؤولي وحدات الحماية الشعبية التابعين لحزب الاتحاد الديمقراطي الموجودين في الحيين المذكورين يختلقون العراقيل لكي لا يخرجوا من الحي إلاَّ بعد أن يقنعوا الناس بالخروج معهم من الحي وجرهم خلفهم كما المرات السابقة، لإدراكهم أنَّ المواطنين هناك ملوا من تكتيكاتهم الفاشلة التي كانت دائماً على حساب أرواح المدنيين وممتلكاتهم، فيفعلون ذلك من جهة لكي يحتموا بالمدنيين ويستخدمونهم كدروع بشرية إذا ما حدث أي صدام، ومن جهةٍ ثانية يدركون جيداً بأنهم لمجرد أن يخرجوا من الحي بمفردهم كمسلحين فقط فبذلك سيخسرون كل تلك الحاضنة التي أشبعوها بالأوهام والوعود الزائفة منذ 2013، والناظر الخيّر لهذه المعضلة يتوصل لقناعة مفادها بأنَّ المسؤول أو القائد عندما يكون دون مستوى الرعاع، يختلق أسباب الصراع مع من كانوا أقوى منه عشرات المرات، إذ تراهم باسم حماية الأهالي يماطلون في الخروج بمفردهم من الحيين المشار إليهما، لأنهم باتوا عارفين بأن لا قيمة لهم بدون حاضنة شعبية، ولكن بما أنَّ الكثير من التنظيمات العقائدية لديها التنظيم أهم من الرعية، وتعتمد أصلاً على القرابين البشرية، فلا مشكلة لدى بعض مسؤوليهم في مقتل عشرات المدنيين إذا ما كان قتلهم سيزيد من احتمالية ارتباط ذوي الضحايا بهم، طالما أنَّ قتلهم سيدخل في الرصيد المعنوي لتنظيمهم الذي يهوى الإكثار من عدد المقابر بدلاً من المدارس والجامعات ومراكز البحوث.
وبخصوص تصرف المسؤولين عن أولئك العناصر المخدَّرين من هول الشعارات في الحيين المذكورين، يظهر جلياً أنَّ الإيديولوجية أعمت بصيرتهم، وغدا حالهم كحال الجن الذين خفي عنهم موت سليمان وهم حوله، فلا يعرفون بأن حلب خالية من النظام، ولا يشاهدون ما يجري في محافظة حماه التي غدت خارج سيطرة النظام، ولا علم لهم بأن أكبر داعم للنظام السوري، أي روسيا، بدأت بسحب فرقاطاتها العسكرية من الساحل السوري، حيث ذكر معهد دراسات الحرب في واشنطن، أن صور الأقمار الصناعية أظهرت في الثالث من الشهر الجاري سحب روسيا كامل أسطولها من قاعدة طرطوس، بينما تواصل إسرائيل تصفية الميليشيات الإيرانية؛ ومع استمرار الوضع على ما هو عليه ودوام حالة اللاسلم واللاحرب وسط المخاوف، ليس من المستغرب قيام عناصر من أحد الفريقين بافتعال جريمة شنيعة تزيد من التوتر الذي قد يسفر عنه الاشتباك وحدوث ما كان متخوفاً منه، أو قيام فريق ثالث بارتكاب حماقة ما بدافع تأجيج الفتنة ولجوء الهيئة إلى العنف، وهو الخيار الذي تستبعده وتتحسس من عواقبه السلبية، بالرغم من قدرتها على السيطرة بالعنف على الحيين المذكورين، وذلك باعتبار أنَّ ثمة طائفة لا بأس بها من الفريق الثالث عيونها على الانتقام والتشفي والتنكيل بالآخر، وليس الوصول إلى تفاهماتٍ ترضي جميع الأطراف وتمنع إزهاق الأرواح.
وحيال ذلك، يبدو جلياً أنَّ الهيئة تعي هذا الأمر جيداً، لذا لا تلجأ للعنف أو الصدام معهم، ولا تنوي استهداف الحيين أو اقتحامهما بالقوة، باعتبار أنَّ ذلك سيؤثر بشكلٍ مباشر على صورتها أمام الرأي العام، بما أنها في هذه الفترة الحساسة تعمل جاهدةً على ترسيخ الصورة الذهنية المقبولة داخياً وخارجياً والتي نجحت فيها إلى الآن، وهي حريصة جداً على تعميم تلك الصورة وبلورتها، وقد أفلحت في ذلك أثناء دخولها إلى حلب، حيث لم يلجأ عناصرها إلى السرقة والسلب ونهب الممتلكات كما عملت الكثير الكثير من الكتائب التي دخلت مدينة حلب باسم التحرير في عام 2013، لذا ما تزال الهيئة تختار طريق المسايسة وتمارس اللَّين مع المسؤولين عن عناصر الوحدات وتمهلهم لكي تُفشل مخطط المرضى من المسؤولين عنهم، الذين قد يطيب لهم خلق الصراع التناحري وجر الهيئة للاشتباك معهم، حتى تتسبب العملية تلك إما بترعيب الناس ودفعهم للنزوح الجماعي من الحي، أو تتسبب الاشتباكات بقتل العشرات من القاطنين في الحيين المذكورين، وذلك حتى ينجحوا في دعايتهم الحزبية مقابل تدمير الحي أو قتل أكبر عدد ممكن من سكانه، مستهترين كالعادة بحياة عناصرهم والمدنيين الأبرياء على حدٍ سواء، غير آبهين ربما بالخطر المحدَّق بالناس، وغير مدركين عواقب الطيش الإيديولوجي. وفي الأخير كلنا أمل بأن يستوعبوا أهمية التعاون مع الإدارة الجديدة للمدينة أو الخروج سالمين مع حفاظ ماء الوجه، ويُدركوا جيداً أنَّ القبول بالحلول السلمية هو كخيار أفضل مئات المرات من وهم الانتصار الإيديولوجي الذي لا يجلب للملة غير الموت والخراب والدمار.