محكومون بالانحياز للفلاح

غسان جان كير

دعاني الرفاق الشيوعيين, في فصيل (صوت الشعب) , لحضور حفل بمناسبة الذكرى 85 لميلاد الحزب الشيوعي السوري , وقد تلقيتُ الدعوة بسرور و حنين إلى زمن لا أتذكره إلا والنقاء يسبقُهُ , والإيثار ديدنه , والبساطة أهم سماته , والتعاون والتضامن الإنساني غايته .

بل قُل أنني تلقيت دعوةً للهروب من زمنٍ, أقلّ ما يُقال فيه انه (زمن اللهم نفسي)

ولعل أكثر ما حفّزني لتقبّل الدعوة , أن الحفلة ستقام في قرية (قره تبه) المُعرّب اسمها إلى ( تل الأَسوَد ) بفعل عقلية لا ترى في التنوع ثراء.

وما يُميز هذه القرية ليس فقط حظها من التعريب الذي شمل جاراتها , بل يجاوزه إلى ما هو ابعد منه مدى وأعظم اثر , فالقرية ترمز إلى دفاع الفلاحين عن ارضٍ استصلحوها , واستقطعت من جهودهم ما يكفي للتوحد معها أو يزيد , فكان من الطبيعي أن ترفض ونرفض معها عودة الإقطاع ولو سخط الساخطون , أولسنا كنا نردد (الأرض لمن يعمل بها) , أولسنا كنا نردد (أن القعود عن نُصرة المستضعفين جُبن).
ليس من اليسير أن تميل إلى من يعانون العسر في حياتهم , فلن تحظى في نهاية المطاف إلا براحة الضمير , وهي بضاعة كاسدة في زمنٍ بات مُحركه شعار (حلال على الشاطر) , كما ليس من اليسير أن تحمل كلمة الاحتفال نفس المعنى فيما إذا قام به البسطاء , أو قام به رجل في أرقى المطاعم بمناسبة وصول رقم ثروته إلى مليار ليرة  , فأن تحضر حفلة للمتعثرين في رزقهم يعني أن تجلس على كرسي بلاستيكي من النوع الرديء على ارض غير مستوية , وتكون طيلة الحفلة حذرا ألا ينقلب بك الكرسي خلفا , فتظل ساقاك تلعبان في الهواء , فإن نفعك الحذر , فلروائح الروث والبعرور أن يُذكراك بزمنٍ رومانسي تتمناه أن يرجع , بل تتمنى أن تعمل المحركات على روث البقر , لتستخرج المياه من الآبار, وتُسمّد الأرض بالبعرور , فتكون قد تخلصت من (منّية) الحكومة التي (دوّختنا) بقصة الدعم .

ومن الرومانسية أن تأخذك خيمة الاحتفال إلى قرونٍ خلت , حيث يعيش الأجداد في الحرّ والقرّ .

ومن الرومانسية أيضا , أن تُلقى الخطب باللغة العربية الفصيحة على فلاحين ؛ حظهم من التعليم كحظهم من الحياة , وباستثناء شخصين من الذين يتسقّّّطون أخبار الناس , كان من المحتّم أن يفهم الناس الخطب فيما لو قُرئت بالكردية , التي حظها كحظ الفلاح , تُثري التنوع الثقافي ولا يُعترف بها , أما الأكثر رومانسية فكان غناء الدكتور (عادل) والفنان الساخر (عماد كاكلو) اللذان دفعا الحضور للرقص (ليس الشيخاني فقط , بل الكرمانجي الذي يُستدفأ به في ليالي الشتاء الباردة) , فكان من الطبيعي أن ترى الرايات الحمراء ترفرف على وقع أغنية (كراسي ته مه له سه) , ولتختلط العكل بآخر صرعات تثبيت الشعر , تحت أشعة الشمس في الواحدة ظهرا في هذا الصيف الجهنمي .


تقول العرب : (جاور البخيت و أوقد من ناره) , وهو مَثل يُضرب لمن يُصاحب مَن أوتي حظا من سعة العيش, فكيف الحال وقد تحتّم علينا أن نصاحب الفلاح وقد تخلت السماء عن صحبته, والحكومة تفضل التجار عليه , وهل أقسى من أن يبيع الفلاح كيلو البندورة ب 5 ليرات لتصل إلى المستهلك ب 15 ليرة ؟!.
وإن كانت الحكومة تميل أحيانا للفلاح فهي تتخذ خطوات هي للبطء اقرب منها إلى السرعة في تنفيذها لقرارات تدرك أنها ليست في صالحه .

بل قُل أن جهابذة مُخططي الاقتصاد , يرون في يقين الفلاح بكارثية تحرير أسعار المستلزمات الزراعية أمر فيه الشك , ويرون في قراراتهم يقينا ليس للشك سبيل إليه.
والشيء الذي يحسن ألا ننساه , أن شعار (سوريا لن تركع) يجب أن ينطلق من الحقول المُخضرة , ومن قئ قئة الدجاجات وهي تبيض بفرح لا كما تقئ قئ توسلا للعلف أو قُنٍ ممنوع بناءه , ومن ثغاء نعجة وفحل يُداعبهما الحب , وليس ثغاء جوع أو وجدٍ من الفراق والتهجير إلى الخليج .


جاز الله الأخوة المصريين – على خفة دمهم – خيرا , وعلى اكتشافهم مقولة (امشي عدل يحتار عدوك فيك).

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف توطئة واستعادة: لا تظهر الحقائق كما هي، في الأزمنة والمراحل العصيبةٍ، بل تُدارُ-عادة- وعلى ضوء التجربة، بمنطق المؤامرة والتضليل، إذ أنه بعد زيارتنا لأوروبا عام 2004، أخذ التهديد ضدنا: الشهيد مشعل التمو وأنا طابعًا أكثر خبثًا، وأكثر استهدافًا وإجراماً إرهابياً. لم أكن ممن يعلن عن ذلك سريعاً، بل كنت أتحين التوقيت المناسب، حين يزول الخطر وتنجلي…

خوشناف سليمان ديبو بعد غياب امتدّ ثلاثة وأربعين عاماً، زرتُ أخيراً مسقط رأسي في “روجآفاي كُردستان”. كانت زيارة أشبه بلقاءٍ بين ذاكرة قديمة وواقع بدا كأن الزمن مرّ بجانبه دون أن يلامسه. خلال هذه السنوات الطويلة، تبدّلت الخرائط وتغيّرت الأمكنة والوجوه؛ ومع ذلك، ظلت الشوارع والأزقة والمباني على حالها كما كانت، بل بدت أشد قتامة وكآبة. البيوت هي ذاتها،…

اكرم حسين في المشهد السياسي الكردي السوري، الذي يتسم غالباً بالحذر والتردد في الإقرار بالأخطاء، تأتي رسالة عضو الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي، السيد سليمان أوسو، حيث نشرها على صفحته الشخصية ، بعد انعقاد “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي “، كموقف إيجابي ، يستحق التقدير. فقد حملت رسالته اعتذاراً صريحاً لمجموعة واسعة من المثقفين والأكاديميين والشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني،…

د. محمود عباس من أعظم الإيجابيات التي أفرزها المؤتمر الوطني الكوردي السوري، ومن أبلغ ثماره وأكثرها نضجًا، أنه تمكن، وخلال ساعات معدودة، من تعرية حقيقة الحكومة السورية الانتقالية، وكشف الغطاء السميك الذي طالما تلاعبت به تحت شعارات الوطنية والديمقراطية المزوّرة. لقد كان مجرد انعقاد المؤتمر، والاتفاق الكوردي، بمثابة اختبار وجودي، أخرج المكبوت من مكامنه، وأسقط الأقنعة عن وجوهٍ طالما تخفّت…