ابراهيم البليهي
الأوروبيون الذين صنعوا هذه الحضارة الباذخة التي ما تزال تفاجئ بالخوارق لم يكونوا يختلفون عن الأمم الأخرى لا في العرق ولا في النسق الثقافي فقد ران عليهم التحجر والجمود قرونًا طويلة وثقيلة ثم استيقظوا واندفعوا في كل اتجاه يكتشفون الأرض والكون ويغوصون في الأعماق ويتعرفون على كل شيء …..
لقد تضافرت أحداثٌ وعوامل منذ القرن الرابع عشر خلقت في الأوروبيين رغبة عارمة متأججة في الاكتشاف وفي المعرفة لقد تَكَوَّن جوٌّ عامٌّ يتسم بالغليان فصارت الرغبة في المعرفة هي الاهتمام العام الجارف …..
العلم لا يُنال بالقسر ولا يتم تحقيقه بالاضطرار كما هي حال التعليم الآن في كل العالم بل يُنال حين تتأجج الرغبة ويفور الولع ويمتد هذا التأجج والولع في البيئة كلها حيث يتفاعل الاهتمام في كل الأُسر ويتجلى في كل اللقاءات وتصير الرغبة في الاكتشاف وفي المعرفة هاجسًا عامًا يعتمل في كل الأذهان …..
لذلك فإن أوروبا تراجعت قدراتها أمام أمريكا لأن فورة الولع بالاكتشاف قد هدأت وربما تنطفئ وربما يمتد التراجع إلى أمريكا أمام فورة الصين …….
إن فاعلية التعلُّم مشروطة بالتضافر العميق والوثيق بين العقل والوجدان إن هذه الحقيقة كانت معروفة للمهتمين خلا القرون ثم تضافرت الاكتشافات في علوم الدماغ منذ العقد الأخير من القرن العشرين فبيَّنت هذه العلوم بأن التعلُّم مشروطٌ بهذا التضافر بين العقل والوجدان فالانجذاب والنفور يرتبط بمراكز المتعة في الدماغ لذلك فإنه لابد أن تكون المعرفة شوقًا عميقا في أعماق كل فرد وأن تكون البيئة كلها تتفاعل حول هذا الهم المعرفي ……
لذلك فإن الاكتشافات الكبرى قد تحققت أثناء فورة الولع الأوروبي بالاكتشاف حيث عَمَّ هذا الولع حتى بلغ أقصى درجاته …..
وانتقل هذا الولع إلى اليابان ففاجأت الغرب نفسه بما لم يكن يتوقعه ثم هاهي الصين تحقق في بضع سنوات ما لم يحققه الغرب إلا خلال قرون فالغرب اختصر عليهم المشوار بما حققه من كشوف وعلوم وتقنيات صارت كلها متاحة لكل الأمم ……
لو حصل تعاون وثيق بين الصين واليابان لكانوا فوق الجميع لكن اليابان ما تزال تعادي الصين وتقف في صف أمريكا……
الولع بالاكتشاف هو أعظم القابليات الفطرية التي يولد بها الإنسان فكل إنسان يولد متعطِّشًا بشكل فطري تلقائي لأن يكتشف وأن يَعْرِف وأن يتعلم ولكن أساليب التعليم السيئة المضادة لطبيعة الإنسان تطفئ هذا التعطش أو تصرفه عن مجال المعرفة الموضوعية فأسلوب التعليم الذي لا يراعي طبيعة الإنسان يؤدي إلى نتائج عكسية فيخلق النفور من التعلُّم ويصرف الرغبة الفطرية في المعرفة إلى إشباعات ضارة ….