القوة الرابعة

صلاح بدرالدين

     خلال زيارته الأولى من نوعها لمسؤول رسمي رفيع المستوى التي وصفتها القيادة الكردية  – بالتاريخية – الى أربيل عاصمة اقليم كردستان العراق في الثلاثين من شهر أكتوبر المنصرم أدلى السيد أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا بتصريح بالغ الأهمية بعد مباحثاته مع الزعيم مسعود بارزاني رئيس الاقليم وجاء فيه “إن تركيا تريد بناء شرق أوسط جديد يضم الأتراك والعرب والكورد والفرس والشيعة والسنة…  ولأجل تغيير الواقع الراهن في المنطقة نحن بحاجة الى دعم الكورد وهذه الزيارة تاريخية وقد حان الوقت لنخطو خطوات أكثر …” .
 حقائق التاريخ والجغرافيا في هذه البقعة من الشرق الأوسط تبين بوضوح لايرقى اليه الشك عن وجود الكتلة البشرية الكردية الرابعة التي تناهز في الوقت الراهن الأربعين مليونا الى جانب الكتل الأخرى : العربية والايرانية والتركية وهي مجتمعة وفي مراحل وحقب متتالية ساهمت في بناء الحضارة ولعبت وبتفاوت وتناوب أدوارا مؤثرة في مصير المنطقة وحياة أقوامها ولكن الوقائع هذه كغيرها كثيرة تعرضت للطمس والاخفاء الى درجة أن غالبية صفحات تأريخ المنطقة المعتمدة في المناهج التعليمية والمتداولة بين الناس والتي دونها – المنتصرون – الطغاة والنخب الشوفينية السائدة أحوج ماتكون الى اعادة كتابتها من جديد لاظهار ماأخفي واطلاق ماحظر رسميا بفعل الآيديولوجيا القومية العنصرية بما في ذلك الحقيقة الكردية كعنصر أصيل متجذر في الأعماق التي غابت عن أذهان الأنظمة والحكومات التركية والايرانية والعراقية والسورية المتعاقبة التي تقتسم الكرد وموطنهم ولنقل منذ مراحل الاستقلال وتشكيل الدولة الوطنية.

  ليس من شك أن اعلان الديبلوماسي التركي بل اعترافه المعلن بالمكون القومي الكردي في المنطقة الى جانب الآخرين والذي يعتبر خرقا للمحظور واستثناء للمألوف كان استكمالا منطقيا بل تحصيل حاصل للاعتراف بالحقيقة الكردية في بلاده أولا والتسليم بوجود ” القضية الكردية في تركيا ” والاعلان في وسائل الاعلام عن انجاز برنامج لمعالجتها عبر الحوار السلمي في حين ولدى اجراء مقارنة سريعة نلحظ امتناع نظامي طهران ودمشق حتى الآن عن رؤية الحقيقة بل والامعان اما في انكار أو تجاهل الوجود الكردي وحقوقه وتنفيذ خطط تغيير التركيب الديموغرافي في مناطقه التاريخية ومحاولة امحاء ثقافته ومعالم هويته .
  لقد سمعنا وتابعنا الكثير عن مشاريع للشرق الأوسط ” الجديد ” و” الكبير ” في كنف ” النظام العالمي الجديد ” مابعد حقبة الحرب الباردة وبالتماثل مع ” عملية التغيير الديموقراطي المنشودة ” في بلداننا وخلت تلك المشاريع عن – عمد أو سهو – من الاشارة الى الكرد وجودا ودورا واستحقاقات في حين نجد بغاية الوضوح موقعا تراتبيا لهم الى جانب الترك والعرب والفرس في رؤية الوزير التركي بل وحاجة لدعمهم في ترتيب أوضاع المنطقة من دون الافصاح عن مضامين وعناوين ذلك الترتيب واذا كنا نشارك المتفائلين – ولو بحذر – والمستنجدين بالسيد داود أوغلو – كحلال للمشاكل – لاستعمال عصاه السحري في فك اشتباكات المنطقة وما أكثرها والقائلين أن تركيا ” تخوض اليوم حقبة بالغة الحيوية والثراء في تاريخها المعاصر، لا يمكن تسميتها بأقل من ميلاد جديد، أو على الأقل إعادة اكتشاف للذات، ثقافياً واستراتيجياً، داخلياً وخارجياً ” الا أننا  ومن أجل البحث مع السيد داود أوغلو عن تلك الحقائق التاريخية وبينها الحقيقة الكردية الشرق أوسطية لابد من صراحة مماثلة بل أكثر وضوحا حول جملة من المبادىء والتساؤلات والوظائف الكفيلة برسم الحدود الواضحة بين مسلكي الاستراتيجية والتكتيك والثابت والآني وبالأخير مدى المصداقية والجدية في تصريح السيد وزير خارجية تركيا ومنها :
 أولا : مقياس الجدية من عدمها يكمن أولا وأخيرا في مدى نجاح الحكومة التركية في الايفاء بالتزاماتها المعلنة تجاه أكثر من خمسة عشر مليون كردي يشكلون قومية ثانية اعترف بوجودهم للمرة الأولى الرئيس التركي العلماني الراحل – توركوت أوزال – من دون التمكن من الاعتراف لهم بأية حقوق قومية وديموقراطية أو التسليم بشراكتهم للترك في السلطة والقرار وقيل أنه ذهب ضحية موقفه الوطني من جانب مراكز القرار – الخفية ! – ومن الخطوات الأساسية أمام الحكومة الآن نشر برنامجها وخارطة طريقها لحل القضية الكردية أمام الرأي العام في البلاد من أجل مشاركة الجميع تركا وكردا وقوميات أخرى في تقرير مصير الجمهورية ومستقبلها والمشاركة العادلة في اطار الاتحاد الاختياري الحر بين مكونات تركيا في ظل دولة متعددة الأقوام والثقافات ودستور يضمن حاضر ومستقبل الجميع بالعدل والمساواة يسبق ذلك تحقيق السلم القومي التركي – الكردي ووضع حد للعنف والعنف المضاد وازالة القوانين الاستثنائية والعرفية المطبقة في اقليم كردستان تركيا الذي يعتبره النظام الحاكم منطقة عسكرية أمنية  وتحقيق المصالحة الوطنية والبدء بتنفيذ المشاريع الانمائية في ذلك الاقليم الذي يتعرض شعبه منذ عقود الى التهجير والتشرد والافقار ووصل الملايين منه الى استانبول والمدن التركية الأخرى هربا من الاضطهاد والقمع.


 ثانيا : الاشارة الى المكون الكردي في الشرق الأوسط بمثابة اعتراف نظري بوجود ماهو قائم ووصف لحالة ماثلة وهي لاتكفي اذا لم تقرن بتفسير موضوعي لمضمونها السياسي والثقافي والديموقراطي مثل حق ذلك المكون كغيره من المكونات المشار اليها في تقرير المصير ونوع النظام الشرق أوسطي ذاك الذي سيجمع بين المكونات الرئيسية الأربع فدرالي أو كونفدرالي بحسب طرح أطراف من الحركة السياسية الكردية في بعض المراحل كحل للمشكلة كما اقترب الرئيس – أوزال – من هذه الرؤية قبل رحيله في احدى تصريحاته التي نشرت مقالا حولها كتعقيب ومتابعة بعنوان : ” فلتكن فدرالية تركية عربية فارسية كردية  ” اشارة الى البحث عن الحل الاقليمي الرباعي الأضلاع أو امبراطوري تركي بمسحة عثمانوية كما تدعو اليه أوساط تركية قومية يمينية بينها المؤسسة العسكرية أو منطقة تجارية لاتمس أسسها وحدودها ودساتيرها ويبقى فيها كل شيء على حاله بما فيه حالة – المواطنين – الأكراد فقط يطلق فيها العنان للرأسمالية التركية الحاكمة أو القريبة من السلطة والقرار الفالتة من عقالها والباحثة عن الأسواق  لذلك على السيد داود أوغلو توضيح أي شرق أوسط جديد يريد : كيان ديموقراطي تتعايش وتتشارك فيه المكونات والأقوام بالعدل والمساواة على قاعدة حق تقرير المصير والاتحاد الاختياري حسب صيغة يتم التوافق عليها أم التأسيس لأمر واقع قائم دون حراك أم امبراطورية متجددة بقطبية أحادية أو ثنائية أو ثلاثية أم منطقة نفوذ تجارية وسوق حرة تخضع للأقوى عسكريا واقتصاديا .

 ثالثا : فكرة الشرق الأوسط الجديد بطبعتها – الداود أوغلية – التي أطلقت للمرة الأولى في عاصمة اقليم كردستان العراق تستحق الوقوف عليها بامعان خاصة وأن هذا المثلث الجغرافي يخبىء كنزا من المشاريع والمبادرات التاريخية تعبيرا عن أهميته الاستراتيجية طوال التاريخ فمن مؤتمر طهران بين الحلفاء بعد الحرب الثانية ظهرت بوادر الحرب الباردة وتقسيم مناطق النفوذ بين منتصري الحرب العالمية الثانية ومن كردستان العراق جرى نعي حقبة الحرب الباردة عندما قرر الغرب انشاء المنطقة الآمنة وفرض حظر الطيران العراقي على الاقليم ومن الكويت أعلن الرئيس بوش الأب عن قيام النظام العالمي الجديد ومن المنطقة أطلق المسؤولون الأمريكان مشروع الشرق الأوسط الجديد والكبير ولا ننس هنا كتاب الرئيس الاسرائيلي – شمعون بيرس – الموسوم بالشرق الأوسط الجديد والسؤال هنا بماذا يختلف المشروع الحالي عن سابقاته ؟ هل سيتفادى أسباب الفشل ويتعظ من نواقصها أم أنه تكرار بمضمونه وأسسه وآلياته وعناوينه وبهذا الصدد أزعم أن المدخل الصحيح لهذا المشروع اذا أريد له التقدم والنجاح يبدأ بتفسير المضمون والبرنامج التفصيلي والمبادىء وتعريف المكون الكردي في المنطقة من هم وماذا يريدون هل هو شعب أم أقليات أم مواطنون وماهو دورهم الحضاري التاريخي القديم والراهن ومن ثم اطلاق عملية حوار صريح ومفتوح عبر وسائل الاعلام المرئية والمسموعة في البلدان الاربعة والخارج بين نخب وممثلي المكونات الأربعة للتوصل الى نتائج وحقائق وتصورات ستساعد في اعادة بناء شرق أوسط جديد تعيد الاعتبار للقوة الكردية الرابعة الى جانب القوى الأخرى الكبيرة والصغيرة على طريق التعايش السلمي والمشاركة وتقرير المصير والاتحاد الاختياري حسب صيغة توافقية مقبولة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…