محمد علي أبطحي وعبدالله أوجلان *

أمين قمورية
 
كم تذكّر محاكمة الاصلاحي الايراني محمد علي ابطحي امام المحكمة الثورية في ايران، بمحاكمة الزعيم الكردي عبد الله اوج آلان بعدما اعتقله الامن التركي بالواسطة ورمى به في غياهب سجن اميرالي المعزول في عرض بحر مرمرة.

في كلتا الحالتين كان وجه المعتقل غيره اذا تذكرناه حرا.
تذكروا سماحة وجه ابطحي قبل الاعتقال، وقارنوها بالمهانة التي حلت به اثناء جلوسه في قاعة المحكمة وتنكّره لاصدقائه والحلفاء.
تذكروا التعابير القاسية كقساوة صخور جبال كردستان التي كانت ترتسم على وجه “ابو” عندما كان يحفز مقاتليه على الاستبسال ضد المحتل التركي، وقارنوها بوجهه امام المحكمة عندما صار اشبه بوجه طفل يرتعد امام غول، يعتذر من جلاده ويقر بأنه كان هو الجاني والمجرم عندما قاتل من اجل استقلال كردستانه.

قلة هم الرجال الذين يصمدون امام قوس محكمة ثورية او محكمة عسكرية.

وقلة هم الرجال الذين لا ينهارون امام جبروت قاض ثوري او قاض عسكري يشهر تهمة الخيانة العظمى في وجوههم ويلوح لهم بالموت بالرصاص او بحبل المشنقة.

واذا حصل وحدث العكس، فان صاحب القضية يموت لكن قضيته تحيا من بعده.

هكذا قرر انطون سعادة عندما حاكم سجانه الذي اراد محاكمته، وهكذا أيضاً فضّل فرج الله الحلو التذويب بالاسيد على الانكسار امام الجلاد.
ابطحي لم يقصد ان يفجر “قنبلة سياسية” تهز ايران.

كما لم يقصد كسبا اعلاميا، عندما تنصل من رفاقه في المعارضة واتهمهم بـ”خيانة” المرشد، وزعزعة استقرار الثورة.

فهو يدرك ان مثل هذه القنبلة ستفقده صداقة الاصلاحيين، لكنها لن تعوضه كسب محبة المتشددين.

وقد تعرض للتعذيب المعنوي والنفسي الذي افقده 13 كيلوغراما من وزنه في ايام معدودات.

لكن ذلك ليس سببا كافيا للانقلاب على نفسه بالادلاء بشهادة تناقض كل ما كان يعتقد به ويسعى من اجله عندما كان يتصدّر تظاهرات الاحتجاج.

وهو حتما كان تحت وطأة اجواء المحكمة الثورية، فمن يده في النار ليس كمن يده في الماء.

فهذه المحاكم اكلت من الشاهنشاهيين ثم الليبراليين واليساريين و”المجاهدين”، فلمَ لا تلتهم اليوم الاصلاحيين الاسلاميين “المرتدين” على الثورة؟ فالتهم التي كانت توجّه قبل ثلاثين عاماً إلى الخارجين على الثورة الاسلامية وآياتها، هي هي التي توجه اليوم إلى إصلاحيي إيران، الخارجين على “النظام”، الذين يريدون بلدهم اكثر “مخملية”، واكثر انفتاحاً، واكثر حرية و”ديموقراطية”.
أبطحي نطق امام المحكمة بما تريد سماعه، وسكت عن الكثير الكثير الذي كان يريد الآخرون ان يسمعوه، ولا تريد المحكمة او النظام سماعه.

وهو لو افرج عما صمت عليه لكان بالتأكيد اعظم مما نطق به.

كان يكفي ان ينطق بما هو خائف منه، ولماذا فقد وزنه.

وما هي الصفقة التي ابرمت معه لانقاذ حياته؟ وماذا جرى معه خلف القضبان لمقايضة صمته او ما نطق به، بطي ملفاته الشخصية؟
عندما سقط اوج آلان تحت وطأة الخوف على حياته وحاول انقاذها بالاعتراف بـ”خطأ” كفاحه، فقد بريقه القيادي واهتز حزبه وانقسم على نفسه وكاد ان يتلاشى قبل ان يعود الى التماسك بفعل رافعة القضية الكردية المحقة.


وعندما سقط ابطحي في الخوف ايضا، حاول بسكوته انقاذ حياته كانسان، من ظلام السجن الاكيد، أو من حبال المشانق الممكنة.

لكنه قضى في المقابل على حياته السياسية كزعيم اصلاحي ينشد التغيير باي ثمن، تاركا وراءه المشهد الايراني بين ثورتين: “ثورة الآيات الثابتة” التي استهلكت رجالها والقادة، و”الثورة المخملية المتحركة” التي لا تزال تفتقر الى رجالها والقادة.
 
 * كاتب لبناني
جريدة النهار اللبنانية  

4-8-2009

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف توطئة واستعادة: لا تظهر الحقائق كما هي، في الأزمنة والمراحل العصيبةٍ، بل تُدارُ-عادة- وعلى ضوء التجربة، بمنطق المؤامرة والتضليل، إذ أنه بعد زيارتنا لأوروبا عام 2004، أخذ التهديد ضدنا: الشهيد مشعل التمو وأنا طابعًا أكثر خبثًا، وأكثر استهدافًا وإجراماً إرهابياً. لم أكن ممن يعلن عن ذلك سريعاً، بل كنت أتحين التوقيت المناسب، حين يزول الخطر وتنجلي…

خوشناف سليمان ديبو بعد غياب امتدّ ثلاثة وأربعين عاماً، زرتُ أخيراً مسقط رأسي في “روجآفاي كُردستان”. كانت زيارة أشبه بلقاءٍ بين ذاكرة قديمة وواقع بدا كأن الزمن مرّ بجانبه دون أن يلامسه. خلال هذه السنوات الطويلة، تبدّلت الخرائط وتغيّرت الأمكنة والوجوه؛ ومع ذلك، ظلت الشوارع والأزقة والمباني على حالها كما كانت، بل بدت أشد قتامة وكآبة. البيوت هي ذاتها،…

اكرم حسين في المشهد السياسي الكردي السوري، الذي يتسم غالباً بالحذر والتردد في الإقرار بالأخطاء، تأتي رسالة عضو الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي، السيد سليمان أوسو، حيث نشرها على صفحته الشخصية ، بعد انعقاد “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي “، كموقف إيجابي ، يستحق التقدير. فقد حملت رسالته اعتذاراً صريحاً لمجموعة واسعة من المثقفين والأكاديميين والشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني،…

د. محمود عباس من أعظم الإيجابيات التي أفرزها المؤتمر الوطني الكوردي السوري، ومن أبلغ ثماره وأكثرها نضجًا، أنه تمكن، وخلال ساعات معدودة، من تعرية حقيقة الحكومة السورية الانتقالية، وكشف الغطاء السميك الذي طالما تلاعبت به تحت شعارات الوطنية والديمقراطية المزوّرة. لقد كان مجرد انعقاد المؤتمر، والاتفاق الكوردي، بمثابة اختبار وجودي، أخرج المكبوت من مكامنه، وأسقط الأقنعة عن وجوهٍ طالما تخفّت…