مشروع « الحركة الوطنية الكردية في سوريا » .. رسالة (للصم) وكتاب (للبكم) ودعوة (للضرير)

روني علي

” سندع القطار يمر عبر دهاليز القهر وفوق صدور المبشرين، كوننا لم نمتلك صمام الحياة والقدرة على الانبعاث ..
سندع الشارع يمتد على طول آهاتنا، كوننا لم نزل أسرى ثقافة الشكوى وأساطير التذمر والنواح ” .

  

  يبدو أن مشروع « الحركة الوطنية الكردية في سوريا » سيدفعني باتجاه مخالفة مقولة ننا أنناالفيلسوف الإغريقي نيكوليوس : ” كن صامتاً أغلب الأحيان، ولا تقل إلا ما هو ضروري، وبقليل من الكلمات، وفيما ندر إن توفرت لك فرصة الكلام، تكلم … لكن لا تقل أول شيء يأتي بخاطرك”.
علاوةً على أن إسقاطاته العملية، الموحية وكأنها محاولة لإحياء “عظام الحركة الحزبية الكردية وهي رميم” ترغمني على الدخول ثانية في سجال حول الحركة الحزبية، المعنية بالمشروع في المقام الأول، في الوقت الذي كنت قد قطعت على نفسي – ومنذ مدة – ألا أقترب من تخومها، وذلك لأسباب عديدة، من أهمها، أن هذه الحركة الفاقدة لبوصلتها ومقومات الخروج من عطالتها، والمتقوقعة في بنيتها والمنكسرة في مفاهيمها، والمهشمة في تركيبتها وتشكيلتها، والتائهة في تعاطيها مع خيارات الوضع الكردي، قد استنفذت جميع فرص النجاح، ومعها قضت على مبررات وجودها بنتيجة أزماتها المستدامة، التي تستند أساساً إلى أزمة “السلوك” النابعة من العقلية التي تحتكم إليها في أدائها لما ينبغي أن تكون من مهامها ووظائفها، وأيضاً البنية الفكرية ” الشمولية ” التي تشكل حاملها وبوصلتها في رسمها لما يمكن أن نسميه بالخط السياسي، ترافقاً مع ما يجري على المستويين الدولي والإقليمي، وكذلك الوطني والقومي من تطورات، تكاد تكون شبه دراماتيكية.

وبالتالي شكلت حالة سلبية أمام تطور القضية التي تدعي النضال في سبيلها، لا بل شوهت معان النضال وقيمها، حتى أضحت بمنأى عن تلبية طموحات المنضوين تحت سقف أحزابها وحزيباتها قبل الشارع، كون الذهنية المؤسسة للعمل الحزبي الكردي لا تزال بعيدة عن تفهم حقيقة، أن لكل عضو، وبصرف النظر عن موقعه، نصيبه في الحزب، وليس لأحد وصاية عليه أو امتيازات فيه، وأن الحزب هو أداة للتعبير عن حالة جمعية له برنامجه وأهدافه وسياساته، لا بد وأن يتم الاشتغال عليها بهدف تحقيقها، وليس حلبة تحتضن التصارع على الأهواء والنزوات والرغبات، الخاسر فيه أولاً وأخيراً هو الحزب نفسه، والمتهم فيه كل من ينأى بنفسه الدخول في معمعة التكتل والشللية، كون الذهنية المستحكمة فينا لا تقبل الاستقلالية، فإما أن يكون أحدنا موالياً لنموذج أو نزعة معينة، وإما عليه تحمل تبعات آرائه المستقلة أو الحيادية من التهم والإساءات ..


   ومع أننا لم نزل نحمل قناعة، بأن الوضع الكردي وطبيعة نضاله يفرضان شكلاً من العمل المؤطر والمنظم، وأن هذا الشكل لا يتحقق – على الأقل في المرحلة الراهنة – إلا عبر ما يمكن تسميته بالأحزاب، وتفرض علينا – تلك القناعة – لأن نستكين – رغماً عنا – إلى التفاعل مع ما هو موجود بحكم الأمر الواقع، إلا أننا نميل في الوقت نفسه إلى الاعتقاد بأن ماهية القضية الكردية ومقوماتها وشروط تحقيقها لاستحقاقاتها، ليست مرهونة بالضرورة بوجود حركة حزبية تحتضن في تكوينها وتركيبتها مواطن التأزيم وافتعال الأزمات، التي هي على النقيض من مفهوم الأزمة بمدلولاتها ومضامينها، وإن كانت تشكل في جزء منها انعكاساً للوحة السياسية المتأزمة في الجانبين الوطني والقومي، ونتاجاً للتراكمات الحاصلة في البنية المجتمعية، كتحصيل حاصل لمورثات ذهنية الإقصاء، ومجمل السياسات السلطوية المتبعة على مر العقود، والمستهدفة لنضالات الشعب الكردي، فضلاً عن نفسية الإنسان الكردي المضطهد والمقهور الذي غالباً ما ينحاز إلى ردات الفعل في أدئه، بحكم افتقاده إلى قوة الإرادة وعدم احتكامه إلى الحكمة والعقلنة في تفاعله مع المستجدات.

فالأزمات في الحالة النضالية تحتاج مرتكزاتها، من اختلاف في البنى السياسية أو الفكرية أو المعرفية، أو تباين في الطرح والمواقف، وهذه كلها لا مساحة لها ضمن سياقات العمل الحزبي الكردي، لعدم امتلاك قياداته الذخيرة المعرفية التي تؤهلها لأن تختلف حول أسسها ومقوماتها، هذه القيادات التي هي من نتاج الأزمات وصانعيها، قد تربت على نزعة الامتلاك والعمل ضمن محمياتها الخاصة بها من قوقعة وشللية، كونها تمخضت عن الفراغ وملأت ذاك الفراغ بالفراغ، نتيجة هشاشة بنيتها المعرفية وقصور رؤيتها السياسية وسطحية تفاعلها مع ما هي مطالبة بها، لا بل عدم امتلاكها القوة والقدرة لأن تعمل ضمن آليات ديمقراطية وضوابط تنظيمية، تؤهلها لأن تتصدى لمهام القائد الذي يدرك معنى اللحظة والفرصة والمناسبة، وكيفية توظيفهما واستثمارهما، ويعي كيف يواجه التحديات ومكامن الخلل بشيء من الحنكة والروية، وإنما تنطلق من نزعات تكاد تكون قريبة إلى مفهوم الصبينة السياسية، انطلاقاً من داء عقد النقص الذي يلفها، والانكسارات التي أنتجتها بصور مشوهة، علاوةً على طبيعة منبتها العشائري / القبلي أو الفئوي، ومحاولاتها على إعادة إنتاج تلك الطبيعة في حيزها الحزبوي.

فهي لا ترى ضيراً في أن تنقلب على نفسها وإنجازاتها – فيما لو أنجزت – إذا ما اصطدمت باستحقاقات الحزب المؤسساتي، مهدمة بذلك أركان الحزب ومقطعةً أوصاله، حتى تبقى هي الآمرة الناهية في تسيير أموره وشؤونه ومتحكمة بكل مفردة فيه، وعليه نراها ودائماً تحاور في الهوامش دون الاقتراب من الجوهر، وتختلف على الجزئيات دون المساس بجذور الخلاف ومقوماته.

بتعبير آخر مراكز القرار في أحزبنا ليست لديها مؤهلات القيادة ضمن أحزاب جماهيرية / مؤسساتية، كونها نتاج عقلية المؤامرة وأحزاب أقرب ما تكون إلى التكيات الصوفية أو المشيخة القبلية .

ولعل هذه التركيبة، وما تترجمها الأحزاب من سلوكيات في الشارع في تناطحها وتصارعها، سواء فيما بينها أو حتى داخل الجسم التنظيمي الواحد، وأيضاً ما تتمخض عن اجتماعات الهيئات القيادية من بيانات وتصريحات تحمل نبرات عنفوانية ..

تصاعدية ..

نضالية وديمقراطية تجافي وحقيقة ما يجري داخل تلك الاجتماعات من مهازل ومهاترات لا صلة لها لا بالحزبية ولا حتى بالقضايا القومية والوطنية، قد رسخت لدى البعض قناعة مؤداها، أن العمل خارج الدائرة الحزبية هي أكثر خدمة للقضية الكردية، وأكثر حفاظاً على كرامة المرء، وأن الحركة الحزبية بنمطيتها السائدة وأجنداتها المتداخلة مع أجندات مراكز القرار في البلد، مستفيدة من النموذج السياسي القائم، وستكون المتضررة فيما لو أخذت ادعاءاتها حيال الحريات الديمقراطية والتعددية السياسية ودمقرطة المجتمع ترجمتها على أرض الواقع، ويبدو أن مثل هذه القناعة تشكل إحدى الأسباب الرئيسية للحواجز القائمة بين ما هو مستقل ومن يحتمي بالمشيخة الحزبية ..
   وبالعودة إلى الجهد المقدم من لدن الأستاذ صلاح بدرالدين وخبرته المستوفاة لشروطه النظرية والعملية في مشروعه «الحركة الوطنية الكردية في سوريا» من دون الدخول في مناقشة ما يحويه المشروع من آليات وبنود وضوابط تنظيمية، لاعتقادي بأن صاحب المشروع نفسه سيتخلى عنه في مراحل لاحقة، أو على الأقل سيغض الطرف عنه، لا لعيب جوهري فيه وإنما لافتقاده إلى حوامله، وخاصةً في جانبه المتعلق بالحركة الحزبية، والذي اعتبره – المشروع – بالنسبة إلى هذا الجانب ليس سوى رسالة “للصم” وكتاب “للبكم” ودعوة “للضرير”، بحكم أن تأسيس المشروع قد جاء على ركيزتين أساسيتين:
 أولهما، قراءته لمفردات المرحلة والتطورات المتلاحقة في منطقتنا من منظور سياسي يعتمد التحليل منهجاً واستشفاف المستقبل ركيزة، وبالتالي البحث عن موطئ قدم للقضية الكردية ضمن استحقاقاته، عبر التأسيس لنواة علها تشكل حجر الأساس لوضع لبنات لمستقبل حاضنه مبادئ الحرية وركيزته قيم الديمقراطية، فضلاً عن رسمه ملامح خارطة طريق للتعايش السلمي بين مجمل مكونات المجتمع السوري، انطلاقاً من مد جسور التواصل والتفاعل بين مكونات المجتمع الكردي بما فيها الحركة الحزبية .
  أما الركيزة الثانية، فهي تتجسد في اعتماد المشروع البناء المؤسساتي للحركة المنشودة وتوزيعه للمهام والمسؤوليات بنسب تأخذ في الحسبان الجانب الجغرافي، وكذلك الكفاءات والطاقات والخبرات التي تقف على مسافة معينة من أداء الحركة الحزبية، والتي لها حصة الأسد بين النسب الموزعة، وحسب اعتقادي وبغض النظر عن موضوع النسب أو الآليات، كون المشروع مفتوح على المناقشة، تبقى هاتين الركيزتين حفارة قبر المشروع، وذلك لسبب بسيط، هو عدم امتلاكه لقوة تنفيذية، وإن كان سيمتلك قوة معنوية وأخلاقية وعاطفية في الشارع الكردي، فضلاً عن أنه، كما سابقاته، يمد الوضع الكردي بآليات الخروج من مأزقه، وهذا ما لا تريده الحركة الحزبية، لكونها المتضررة من أية مبادرة تخرجها من نفقها أو توازناتها الخاصة بها ..
   قد لا أكون مدركاً للخلفيات التي أسس عليها السيد بدرالدين مشروعه، وإن كنت ميال إلى الاعتقاد بأنه لا يبغي من ورائه بناء هيكلية تجميعية لحزيباتنا الكردية بمنأى عن مرتكزات البناء، أو الدخول في تأسيس حالة حركية على برنامج سياسي ساكن، خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مجمل المشاريع التي طرحت، كانت وما تزال تصطدم بالتوازنات القائمة على أساس الشخصنة ولا شيء غير ذلك، فلو جاء أي مشروع، وحتى من نقطة واحدة، يدعوا إلى التوحيد على كلمة “كردي” فقط، سيلاقي نفس المصير الذي لاقاه غيره من المشاريع التي جاءت وفق سياقات سياسية أو برنامجية ..

لأن واقع حال الحركة الحزبية يأبى الرضوخ إلى شروط المرحلة، إلا إذا كان صاحب المشروع يهدف من جملة ما يهدف، تأليب الرأي العام الكردي على هذه الحركة السباتية، وهذا أيضاً يفتقد لشروط نجاحه، إذا ما تناولنا جملة المشاريع التي طرحت وكانت نتيجتها أنها لا تهدف سوى المناورة على الشارع الكردي الذي لم يتحرك، ولو لمرة واحدة، في وجه المستخفين به، وكأنه غير معني بما يجري، إن لم يكن غير مبال أو غير مؤمن بما تقدم عليه هذه الحركة، ولنا في مجمل التجارب التي رافقت عمر هذه الحركة خير مثال، بدءاً من الميثاق الكردي ومشروع الوحدة بين الاتحاد الشعبي والبارتي في أوائل الثمانينات، مروراً بالتحالف الأول ثم الثاني ثم المجلس العام للتحالف وانطلاقة الجبهة الديمقراطية ولجنة التنسيق، وما تمخض عن هبة آذار من بعض الدعوات التي جاءت لتدغدغ مشاعر الشارع الكردي وفق إيقاعات عاطفية مرةً باسم الإطار الشامل وأخرى باسم المجموع وثالثاً باسم المرجعية ورابعاً باسم الرؤية المشتركة وخامساً باسم المؤتمر الوطني ولا أدري إن كان سادساً أم سابعاً أم ثامناً باسم المجلس السياسي ..

وقد يبقى الباب مفتوحاً على مثل هذه الدعوات التي تهدف بالدرجة الأساس إلى ذر الرماد في العيون والتهرب من استحقاقات القضية الكردية من خلال قيام الحركة الحزبية بمراجعة نقدية لمجمل سلوكياتها وممارساتها، ومن بينها استخفافها بعقلية الإنسان الكردي، هذا إذا ما تجاهلنا عمليتي الوحدة اللتين قامتا على أسس معينة ثم دخلتا لاحقاً ضمن الضوابط المرسومة والموصوفة ..

نعم أقول؛ لا بد وأن يكون السيد بدرالدين مدركاً لما جاء سرده، ومدركاً أيضاً أن حركتنا الحزبية تعتبر المستقل وكذلك الطاقات والكفاءات من خصومها الأساسيين، كونها في حالة خصام وتناحر مع الثقافة، فكيف لها أن تنجر إلى خندق فيها من المخاطر ما لا تحمد عقباه، وعليه نقول؛ أن أي مشروع مهما امتلك من قوة سياسية أو نظرية أو حتى فكرية سوف لن يكتب له النجاح مادام سيكون في مواجهة أو اصطدام حتمي مع عقلية تأبى الركون إلى التعامل الديمقراطي واحترام مبدأ الحوار، وتعتبر البناء المؤسساتي آفة بالنسبة لها، خاصةً وأن مشروعاً بمثل ما هو مطروح فيه هدم لكل المكتسبات الوهمية والامتيازات الشخصية التي أفرزتها التركيبة العائلوية والفئوية والانشقاقية لأحزابنا الكردية ..
خلاصة القول؛ إذا كان السيد بدرالدين قد أصاب في الرمي إلا أنه أخطأ في الهدف حكماً ..

      

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…