الطالباني ومشروع الإدارة المؤسساتية

  روني علي

   لعل تجربة غالبية حركات التحرر والقوى المناهضة للأنظمة الديكتاتورية والشمولية، بتحولها إلى نموذج للسلطة المطلقة، إبان تسلمها مقاليد الدولة والتفافها على وعودها وعهودها وشعاراتها، الداعية إلى التحرر والانعتاق، ومن ثم تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أو تنصلها منها، نتيجة ركونها إلى ذهنية السيطرة ومنطق احتكار السلطة، قد دفعت قسماً لا يستهان به من الكتاب والمفكرين، إلى إعادة النظر في بعض الآراء والأفكار التي تتناول التحرر من منظور الوصول إلى السلطة، لتيقنه أن باعتماد الذهنية الآنفة الذكر في بناء الدولة، وبالاحتكام إلى منطق المكتسبات والامتيازات، أو الخلفيات السياسية والإيديولوجية التي تتحكم في تقديم البعض على الآخر، بالضد من مفهوم دولة الحرية، القائمة على أساس المواطنة ومعيار الكفاءة
فإن الخروج من براثن القمع والديكتاتورية، مع حجم التضحيات التي تقدمها الشعوب، لا تلبي – في الغالب – طموحات المواطن، الذي يجد نفسه مكتوياً – مرةً أخرى – بنار شعارات “المرحلة الانتقالية”، الهادفة إلى إقصائه عن الحياة الوطنية، وجعله خانعاً لإرادة الفئة المتحكمة، ليقف بالنهاية، وجهاً لوجه، أمام استحقاقات جديدة، هي من مترتبات “الثورة التي تأكل أبناءها” وتفرض عليه التخلص من ثمرات تضحياته، بمزيد من الدماء والتضحيات، بحكم أن ما يقدم عليه من تغيير، يصيب الوجوه والشخوص دون الأسس والمرتكزات، وبالتالي يكون الوطن والمواطن عرضةً لدورات من العنف وهدر الدماء مرةً تلو الأخرى .
   ويبدو أن السيد جلال الطالباني بات مدركاً، بحكم الخبرة والتجربة، للفروقات الجوهرية بين عقلية الثورة وإدارة الدولة المؤسساتية، وكذلك حجم المخاطر المحدقة بها، إذا ما بقيت تحت رحمة المرجعيات الحزبية وحكراً على نزعاتها ومحاصصاتها ومنطق إدارتها من قبل الفائز بها، تلكم التي ستؤسس للفساد والمحسوبيات، وتجعلها خاوية المضمون وخائرة القوى، إلى جانب خلقها لحالة الاغتراب بينها وبين المواطن، وهنا تكمن الطامة الكبرى، كونه لا بد وأن يوماً سيأتي ولا تجد فيه الدولة من يدافع عن سياجاتها.

وإذا كان الطالباني رئيساً لكل العراق، ومن واجبه أن يؤسس لبنائه الديمقراطي/المؤسساتي، كمساهماته الجادة والفعالة في إدارة العملية السياسية، ودوره كصمام أمان في القضايا الخلافية بين أطرافها، إلا أن ثمة ممانعات تعترض مراميه، وهي مرتبطة في الجوهر، بالمورث الثقافي الذي تعمل عليه غالبية التشكيلات السياسية والكيانات الطائفية والمذهبية، فضلاً عن أجندات القوى، الدولية منها والإقليمية، وتصارعها في الحاضنة العراقية، والتي تشكل بمجملها بمثابة العصي في عجلات قيام تجربة نموذجية في المنطقة العربية.

وعليه فهو يحاول أن يعود إلى مركز ثقله السياسي والتنظيمي – إقليم كردستان – ليختبر أفكاره على الأرض، خاصةً وأن تلك الأفكار تستحوذ على رضى الغالبية الغالبة من أبناء الإقليم، وتحديداً المواطنين العاديين، وكذلك الرافضين لفكرة التحزب وتدخل الأحزاب في شؤون الإدارة، فضلاً عن أنها تلاقي القبول من لدن شريكه الأساسي في العملية السياسية ورئيس الإقليم، السيد مسعود البارزاني، الذي أكد مراراً وتكراراً على ضرورة أن تكون السلطة بعيدة عن الامتيازات الحزبية، وألا تكون خاضعة لإرادتها.

ومن هنا نجد أن السيد الطالباني ينطلق بمشروعه بدايةً من مؤسسته الحزبية، مخاطباً أنصاره “ستكونون انتم آذان وأعين الإتحاد الوطني الكوردستاني في دوائر مؤسسات حكومتنا، ولستم العصا الغليظة على رؤوس موظفي الدولة، تنتهكون القانون وسلطات المؤسسات الحكومية” وكأنه بهذا الخطاب يدفع برسالة معينة إلى الشارع، ليؤكد من خلالها أن مشروعه لكل المجتمع الكردستاني، وهو ينصف الضعيف قبل القوي، كونه يرمي إلى قوننة الحياة واحترام دستورية المؤسسات، وإن كان البعض سيدفع بتفسيراته حوله، ويؤوله انطلاقاً من اعتبارات ودوافع معينة .


    فما قدمه السيد الطالباني في 18/12/2008 من مشروع “لتنظيم العمل بين حكومة إقليم كوردستان والأحزاب الكوردستانية وخاصة الإتحاد الوطني الكوردستاني” وفي المجالات كافة، هو في حقيقة الأمر خطوة جريئة ورؤية صائبة، لا بد وأن تصب في خدمة المجتمع الكردستاني، بمختلف اتجاهاته وانتماءاته، وهو أيضاً إشارة جادة باتجاه القطع مع عقلية الاستئثار بالسلطة، كون حكومة الإقليم، وحسب الطالباني “ثمرة كفاح ونضال وتضحيات البيشمركة والأحزاب الثورية وجماهير شعب كوردستان ودماء شهدائنا الأبرار” وعليه “يجب أن يكون فيما بين الحزب والحكومة اختلاف ظاهر وبيّن، أي على الأحزاب أن تشارك في الحكم عن طريق البرلمان ومندوبيها في الوزارات، وليس عن طريق تدخل أعضائها وكوادرها ومنظماتها في أمور الحكومة ومؤسساتها” كون “الحزب وأي حزب كان، مهما كان كبيراً، فهو لخدمة مجموعة من الناس، أما الحكومة فهي لمجمل جماهير شعب كوردستان” فالحكومة تقع على عاتقها “مهام إدارة المؤسسات الخدمية، التعليم والصحة والمياه والكهرباء، وتقع على عاتقها تأمين وتدبير الميزانية اللازمة لتلك الخدمات وتطويرها وضمان جميع نواحي الحياة للناس، وتقع على عاتقها إنشاء الصناعات والتنمية الزراعية والتجارية ومراقبة الأسواق ومشاريع الإعمار..

في حين تقع على عاتق الحزب مهام توعية الجماهير وتنظيمها ونشر مبادئه المختلفة فيما بينهم، وتشجيع وتهيئة مجاميع الناس للمشاركة الفعالة في انتخاب مرشحيهم للبرلمان وحماية حكومة الإقليم كحكومة شعبنا وتطويرها وانجاحها في تنفيذ مهاما”.
   إذاً، الطالباني وهو يضع لبنات النظام المؤسساتي في إقليمه الذي هو في تبادل معه بالانكسارات والانتصارات، كأنه بفكره المتنور عن الدولة المعاصرة، إلى جانب أنه يقدم أمثولة إلى غيره من القادة الحزبيين ممن تبوؤا عرش السلطة، يحمل معاول الهدم لكل ما أعاق تطور التجربة الكردية، ولكل ما أفرزتها سنوات الجفاء في التعاطي مع استحقاقات القضية الكردية بين أبناء الهم الواحد، وما جلبتها حالات التناطح والتطاحن في المضمار السياسي من آفات وويلات على الإنسان الكردي، وكأنه أيضاً يحاول أن يختم حياته السياسية بذخيرة يقدمها لأبناء جلدته، يحثهم من خلالها على أن الرابط الأقوى بين المواطنين يكمن في الانتماء إلى الأرض – الوطن – وخدمة ذاك الوطن، وليس في الولاءات الحزبية أو السياسية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…