د. محمود عباس
ثقافة الكرد
مر الشعب الكردي بجميع المراحل المذكورة سابقاً في (مقالنا الأول) واعتنقوا أديان الشرق جميعها، وشربوا من منابع الثقافات كلها. عبث المارون والمحتلون والمستبدون بمجتمعهم وأوطانهم قدر ما استطاعوا وبأقذر الأساليب، حدثت على خلفيتها وضمن جغرافيتهم أبشع الجرائم، وذاقوا وعلى مر التاريخ المرارات كلها، فترسبت في أعماقهم شذوذ معظم الثقافات المتنافرة مع ثقافتهم الأصلية، مع ذلك حافظت طبيعتهم المسالمة على الكثير من قيمها وركائزها، تظهر واضحة من خلال طرق صراعهم المستدام مع السلطات المحاطة أو المحتلة لكردستان، والتي غطيت عليها الصبر والجلد في تحمل الاستبداد، وأساليب المواجهات، وعدم مهاجمة القوى المعتدية خارج جغرافيتهم، مكتفين بالدفاع عن الذات. فالاعتداءات والعنف، تتنافى وبنيتهم الدينية الأولى، والمستندة على القيم الروحية المسالمة، والتي تعكسها طبيعتهم، والمفاهيم التي نشرتها الديانات النابعة من أحضانهم.
ساد الإسلام بين الكرد دينا، وطبعت عن طريقها ثقافة غريبة عليهم، حرفت الكثير من مفاهيمهم، وتشوهت نوعية العلاقات، ففي عمقها لم تكن تعكس ثقافة النص الذي كان يقرأ عليهم، بقدر ما كانت تعكس ثقافة القبائل العربية البدوية العائشة على الغزو، والتي تناقضت وطبيعة الكرد الجبلية الوادعة والمسالمة.
أتبعتهم اجتياحات عديدة تحت الصفة الدينية والمفاهيم ذاتها وبأساليب مختلفة، إلى أن استقرت على اجتياحات القبائل التركية والمشكلة للإمبراطورية العثمانية، والتي كانت آخر الاجتياحات التي طالت الشعب الكردي وجغرافيته، تحت خيمة الدين، وذلك بعد القرون الطوال من طغيان وهيمنة القبائل العربية الجاهلية باسم الإسلام.
فدراسة مراحل هذا التاريخ المديد، تبين، بأنه لم تظهر على الخلفيات الدينية للشعب الكردي، أو ثقافاتهم الماضية وعلى أسس الديانة الإسلامية، أية حروب أو مجازر، ولم يحاولوا نشرهما بالقوة. وحتى في الفترات الزمنية الطويلة التي كانت أديانهم فيها سائدة، كانوا يجنحون إلى الطرق السلمية في نشرها، ومنذ حينها هيمنت المفاهيم الباطنية في الروحانيات كنزعة دينية، وهي نفسها التي تقمصها الكرد عند اعتناقهم للإسلام، وساد بها الهدوء مع الذات، وقد كان حب السلام من ركائز معظم أديانهم السابقة، فكان ينهجها مع نفسه والعالم المحاط، ولم يحرفوا في مفاهيمها مثلما حرفت القبائل العربية الجاهلية في الإسلام.
وبعكس القبائل العربية ظل الكرد قانعين بأديانهم في محيطهم، يعتنقون الديانة الأزداهية، المتطورة إلى الإيزيدية، ومثلها الزرادشتية الخارجة من رحمها، والمانوية. وما انتشرت منها في الجغرافيات المجاورة حدثت بالدعوات السلمية، أو حملها أبناء الشعوب الأخرى لمجتمعاتهم.
تشابهت تلك الأديان في عمومياتها مع المنحى العام للديانة المسيحية، باستثناء أن رواد المسيحية اللاحقون، غيروا مسارها الإنساني إلى حيث العنف، والحروب، فملأوا صفحات التاريخ بالجرائم والمجازر، والقتل، وفعلوا البشائع بالبشر تحت مفهوم نشر السيادة الإلهية، أو القصاص من الذين يعارضون مفاهيم الإله، وعلى مدى قرون طويلة برز الطغاة الذين سيطروا تحت خيمة المسيحية، وسببوا في حرق أكثر من خمسين ألف أمرأه في أوروبا وحدها، اتهموا بدخول الشيطان إلى جسمهن، اعتمدوا فيها على تأويلاتهم المغرضة لنصوص من الإنجيل، وتاريخ الإسلام السياسي ومنذ البدايات الأولى امتلأت بحوادث لا تقل عنها بشاعة، فلم تمضي عقد وإلا كانت فيها حروب شرسة أو عنف في كل المناطق الإسلامية.
الديانات الثلاث المعروفة بجنحها للسلام والمحبة دون العنف، ونشر الخير في الأرض، الأزداهية-الإيزيدية، والزرادشتية، والمانوية، كردية الأصل والمنبت، هم أصحابها، منهم ومن جغرافيتهم نبعت، أنبيائها وروادها ومبشريها الأوائل، فمعظم العوامل التي أدت إلى ظهورها تلاءمت وطبيعتهم، وعلى أسسها ترسخت في ثقافتهم نزعة السلام ونبذ العنف، ولم تنشر إلا بتلك الطرق. معابدهم كانت مراكز تدعوا إلى الخير والمحبة، والعبادة والتقرب من الله بذاتية روحانية غطت عليها الباطنيات، دون أن يفرضها الأخرون، أو يرضخ الأخرون لها.
وعلى بنية هذه الأديان تراكمت المعرفة الإنسانية وحب السلام بينهم، وعلى مدى قرون طويلة، تشبعوا من مفاهيمها، وتراكمت ثقافاتهم على أسسها، حيث الهدوء والسلام والخير ونبذ العنف، إلى أن اجتاحتهم أديان ومفاهيم من خارج بيئتهم، فكان الانحراف الثقافي والصدمات الكارثية، والصراع الحاد بين العنف القادم والسلام المقيم، بين دعاة الحرب ونشر المفاهيم الدينية بالغزوات والحروب وإرضاخ البشر بالعنف، وبين المجتمعات النازعة إلى الهدوء والسلام، بين الإيمان بإله الخير والرحمن، والإيمان بإله العنف والغزوات.
أسباب ظهور التصوف بين الكرد
اجتياح القبائل العربية تحت راية الدين الإسلامي، كانت أحدى أوسعها وليست آخرها، الذي قاده شريحة من البشر يحملون راية العنف المديني من الإسلام دون السلام المكي، متراسا للسيادة والطغي ونهب الشعوب، متناسين منابعها الأساسية، ومعهم ثقافة قبائلهم البدوية، حيث الغزوات والشر، المستمدة من سيرة بدايات سيطرة الإسلام، ونصوص متأخرة دون أخرى، وتفسيرات لمفاهيم السبي والنهب والقتل، تتماشى ورغباتهم الاستبدادية، المتعارضة وثقافة الشعوب الأخرى، مثلما حصلت بين ثقافة القبائل العربية البدوية الغازية، والثقافة الكردية المبنية على دياناتها الباطنية، فكانت النتيجة، ظهور التأويلات العميقة، للإسلام، وتدوير للتفسيرات المباشرة، وإلغاء لركائز التجسيد في القرآن الذي لم يتمكن المفسرون العرب الخروج من أطرها، فأضفوا الكرد عليها من ثقافتهم السلمية، الباطنية، التاريخية الدينية، وعلى خلفيتها ظهرت الصوفية في الإسلام، والمؤدية إلى بروز أغلب وأعمق وأوسع مذاهبها في جغرافية كردستان، فكانت ولا تزال معظم التكيات الإسلامية في كردستان تستخدم الطرق الصوفية في التبشير ونشر مفاهيم الدين، وأوسع مذهبين، القادرية والنقشبندية، ظهرا بين الكرد وينتشران هناك. ولا شك لهذه خلفية ثقافية، مدعومة بنزعة داخلية، وهي حب السلام، والتقرب من الله بروحانية خالية من العنف.
تتبين هذه الحقيقة من خلال دراسة التاريخ الكردي، الذين لم يغزوا يوما جيرانهم للنهب، ولم يدمروا ممتلكات الشعوب المجاورة، حتى عندما كانوا يعتلون مراكز القوة والهيمنة، ومعظم حروبهم ظهرت داخل جغرافيتهم، أو على التخوم منها، وكانت حروب دفاعية عن الذات والأملاك والعرض، حتى أن أبشعها والتي جرت بين الإمبراطوريات المجاورة لمنطقتهم أو التي كانت تحتلهم، حاولوا النأي عنها، علما أن معظم الخلفاء وقادة الإمبراطوريات استخدموهم كأدوات في تلك الحروب، كالتي جرت بين الإمبراطوريتين، الفارسية واليونانية. فعند تتبع مسيرة الإمبراطورية الساسانية والتي تفرز كردياً -فارسيا، يعرف أن ملوكها لم يغزوا ولم يخلقوا الحروب المدمرة كما فعلها الخلفاء المسلمين، ومثلها الحروب بين الصفويين والعثمانيين.
الثقافة ذاتها لا تزال سائدة، بين الكرد، دعاة السلام والتآخي، يطالبون مستعمريهم من السلطات العروبية والتركية والفارسية بحل قضيتهم سلميا، ينأون عن خوض الحروب معهم، رغم إنها تفرض عليهم، والسلطات المستعمرة لجغرافيتهم تخلق العنف بكل الطرق ضمن جغرافيتهم، وبين مدنهم، ليظهروها للعالم أن الكرد إرهابيون، يحبون القتل، مثلما تفعلها وفعلتها الحكومات التركية والعربية والفارسية المتعاقبة، متناسين أن كل ما يجري هي ضمن الجغرافية “الديمغرافية أو السياسية” غير المعترفة بها دولياً، ولا علاقة لتلك السلطات بأرض وشعب كردستان إلا كاستعمار. ومعظم الدول المؤيدة لهم على هذا الاستعمار واتهام الكرد بالإرهاب، تحتضنهم النفاق والخبث، يلفقونها تحت أجنحة المصالح والغايات الدونية.
حروب الكرد حاضرا، ليست سوى دفاع عن الذات، والتصريحات الملفقة للهاربين من مناطق الثغور في حروبهم الدفاعية المتأخرة في غربي كردستان وجنوبه، والتي معظمها دفاعية ضد داعش والقوى التكفيرية الإسلامية، تنبع من جهتين، بإملاءات خارجية، منها السلطات العروبية أو تلك القوى الإرهابية العربية الإسلامية، ومعظمهم يهربون بعد اقتراب الكرد لتحرير مناطقهم، وهي عمليات تندرج ضمن المخططات التآمرية لتشويه وجه السلام للكرد. والتمعن في جغرافيتهم، على خلفية الكارثة السورية والعراقية، سنجد أنها الأكثر نزعة إلى السلام، وأكثرها احتضانا للنازحين والمهاجرين، دون أن يتباهوا بها أو يطالبوا المجتمع الدولي بالمساعدات والدعم المادي كتركيا التي حصلت حتى الأن على أكثر من 10 مليارات دولار، فهي لا تقدم رغيفا أو خيمة دون أن يتلقى مقابلها مالا من الدول الكبرى.
وندائنا هنا للعالم الحر، والقوى المحبة للسلام والحرية، الجنح إلى التعامل مع الكرد بالعدل والحق، ومعرفة أن كل ما تنشره تركيا والسلطات الاستبدادية حول الكرد وبينهم السلطتين السورية والعراقية وقسم واسع من المعارضة العروبية الإسلامية ليست سوى تلفيقات تآمريه، وتشويها للحقائق. وليعلم هؤلاء الطغاة، أنهم بقدر ما يحاولون وضع قناع ما على الوجه الكردي المسالم، يقتلون بالمقابل روح التعامل الوطني بين شعوب المنطقة، ويدمرون ثقة الكردي بالشعب العربي، بعد أن هدموا تلك الثقة بالحكومات والسلطات العربية وأقسام واسعة من القوى المعارضة أو المدعية بالوطنية، بشكل كلي. فالكرد لم يكونوا يوما من مثيري الحروب، ولن يكونوا. يحملون السلم في ثقافتهم، ويؤمنون بها، وكل ما ينشر عنهم ليس سوى خبث ومؤامرات لاستمرارية استعمارهم على جغرافية كردستان، ومحاولات لطمس قضيتهم المتصاعدة، وبأساليب أخبث تتلاءم ومسيرة العصر.
وفي النهاية فإن إله الخير سينتصر على الشر، وسيسود السلام. والذات الكردية، العاشقة للحرية، الرافضة للحروب والجانحة إلى السلام منذ البدء ستنتصر وستبقى كذلك إلى الأزل.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
11/3/2016