د. محمود عباس
من شأن السلطات الاستبدادية تحريف ملفات المعتقلين السياسيين إلى ملفات سارق دجاج، ومن القوى المعارضة إلى عصابات، وبالمقابل التغطية على المفسدين والانتهازيين والمنافقين، وتجار الحروب في الوطن، وأيضا من شأنها سحق كل من يحظى بثقة المجتمع ولديه مميزات القيادة، وأمثال هؤلاء متواجدون في المجتمع الكردي وبكثرة. ولكن الحاصل هو تعمية البصائر، وترسيخ مركب النقص، بقدر ما تستطيع، ويتم هذا، عادة، عن طريق مربعاتها الأمنية، وكذلك بعشرات الطرق والأساليب؛ بينما ينبري إعلام تلك السلطات في تصوير ذاتها بأعلى درجات المثالية والوطنية والنزاهة، فهذه الإشكاليات وغيرها، من مرتكزات تضليل الجماهير وتبليد أذهانها.
سقطت ولربما أجبرت على السقوط، معظم الأحزاب الكردية والكردستانية في هذا المستنقع، كما عملت السلطات المستعمرة لكردستان على التخريج الذاتي لشرائح معينة من السياسيين والمثقفين، لتتبع مسالك ملتوية، وينفصل عن السرب الوطني تألما ليتخلف أو يتقاعس عنه، في حين تتعرض معظم الشريحة الوطنية الصامدة في الواجهة، إلى الصدمات، من التلاسن إلى أبشع أنواع التهجم، لتصبح كأكياس الملاكمة تتلقى ضربات المتدرب، وبالتالي تتحول إلى مصدر لاستفراغ الأطراف الحزبية شحناتها المتراكمة عن طريق تلك الضربات على بعضها البعض، وهكذا يبقى المسبب لهذا التراكم في طي النسيان. وتأطرت، عن طريق المربعات الأمنية، معظم تلك الأحزاب ضمن أطر سياسية ملائمة لأجندات السلطة، وانتهجت نهجا متخلفا، كما تبنت غايات دون مستوى التحرر.
فمن المؤلم رؤيتها وهي تغرق في مستنقع السلطات الاستبدادية، تبعية؛ وتطبيقا؛ وتثقيفا، ولا تتمكن قياداتها التحرر من المرسوم، حتى ولو كانت شريحة أو شرائح منسية، أو ذات دور ثانوي في المنطقة. ونرى أن كل واحدة منها بأفعالها وتعاملها مع الأطراف الأخرى، ومع منتقديها، تشوه الصورة النمطية التي كانت بعض الدول الكبرى ترى في الكردي الشعب الطامح، مؤهلا لتكوين مؤسسات حضارية، وكانت تتوقع منه إقامة كيان ديمقراطي.
الصورة تتلوث يوما بعد يوم، ولم يعد الكردي يختلف عن الكيانات الاستبدادية المحاطة به أو المستعمرة لكردستان، ومهما طبلت الأحزاب الكردية أو الكردستانية لإداراتها القائمة حالياً، ووصفتها بالديمقراطية، فمجريات الأحداث؛ والأفعال اليومية؛ وعلى جميع الأصعدة تعري الوجه الحقيقي، وإن نجحت في تغطيتها أمام الكردي البائس، فهي لا تنطلي على القوى المعنية بأمر المنطقة. فما الذي بقي من القيم الحضارية أو المصالح التي ستدفع بالدول الكبرى على مساعدة الكرد لإقامة كيانه الخاص، لمواجهة الدول التي لها مصالح جاهزة معها؟!
1- يعتقل السياسي في كردستان وبأيدي كردية، تحت جنح الإجرام، ويخلع عنه الصفة السياسية بقلم سلطة بوليسية تأخذ أوامرها من المربعات الأمنية التابعة للسلطات الاستبدادية المستعمرة لكردستان.
2- وتخلق حالة معيشية مقرفة، لتمرير أجندات السلطة.
3- وتفتح أبواب الهجرة، بإغلاق أبواب المساعدات وتقديم الخدمات، وحجج الرد على مثل هذا النقد جاهزة ومقنعة لشريحة واسعة من الشعب الكردي الطامح.
4- لا يعقل إدراج المربعات الأمنية للسلطات الإجرامية ضمن خانة المؤسسات المدنية! روسيا دافعت عن نظام بشار الأسد واستبداده، تحت مفهوم الحفاظ على مؤسسات الدولة، والمعارضة الافتراضية الفاسدة استخدمت اسم الثورة لبلوغ السلطة، وفي البعدين لم يحاولا عزل المؤسسات الحكومة الخدمية عن المربعات الأمنية؛ أعمدة الاستبداد؛ وعقول السلطة الشمولية الاستبدادية، التي هي خارج أبعاد المؤسسات، ولا يمكن فرزها ضمن مؤسسات الدولة، وفي هذه تأويلات لا تخفى عن المراقبين والمحللين السياسيين العالميين، ومن يحاول التغطية على هذه الحقيقة يخدع ذاته قبل المجتمع، ومن يريد الحفاظ على تلك المؤسسات، لا بد أن له منها غاية، لربما إقامة كيان استبدادي؛ على الأنقاض، لا يقل استبدادا عن السلطة السابقة.
نقدت، ولكنني لم أهاجم يوما رؤساء الأحزاب التي تقود الحركة السياسية الكردية، لأنني أجدهم وبمعظم أحزابهم مرغمون، وسُلِبوا من القدرات، أو حُجِب عنهم استيعاب نهجها، ولم أجدهم معضلة في تأخرها، وتشتتها، وضعفها، ولم أحبذ يوما التهجم، ولم أحبذ النقد السلبي والمبتذل الذي جرى ويجري بين أطراف حزبية، وشريحة متخصصة في ذلك، وبلغت أحيانا حد البذاءة، كما ولم أراهم يوما أحرارا على سوية الحركة التي تعكس كردستان كيانا أو تاريخا أو هيبة، لأن الوعي المطلوب قد أحجم عنهم، وسُلِبت منهم الإمكانية القادرة على جعلهم أن يكونوا المعضلة الرئيسة في المشاكل التي تغرق فيها كردستان، ووجدت، في معظم الأحيان، أن الإخوة المنتقدين أو المهاجمين، لشريحة من رؤساء الأحزاب، والأحزاب ذاتها، يقزمون كردستان، وطاقات شعبها، ويسخرون من مكانتهما، عندما يحصرون القضية الكردستانية في جغرافية أحزاب لا تزال تعاني ويلات المربعات الأمنية.
لا شك، مثلهم مثل بقية النخب الثقافية والسياسية المتصارعة؛ إذا توقعنا جدلا بوجود النخبة، خرجت من أحضان الشعب، وأتعجب كيف نبسط القضية الكردستانية إلى سوية شريحة نطالبهم بحلها، أو نختصر القضية في الاتفاق بين أحزاب أو رؤساء أحزاب، أو تسوية خلافاتهم.
والبعض من الحركة الثقافية والسياسية يلحون على إقامة مؤتمر وطني بين الأحزاب، أو بين رؤساء الأحزاب كحل نهائي للنجاح الكردي! ومعظم مسؤولي الأحزاب قدرتهم مسلوبة ودون سوية بعض المنتقدين أو الشريحة السياسية والثقافية المنتقدة، إن كان فكراً أو وعيا أو دراية، فمثلما لا نتمكن من إيجاد الحلول الملائمة، هم أيضا يدرجون ضمن تلك الحلقة، وكون الظروف القاهرة أقدتهم أبسط الإمكانيات فهم ليسوا بأقوى منا نحن المنتقدين.
مع ذلك، نقدتهم، على سويتهم، ونشاطاتهم، كأحزاب لا حول لها ولا قوة، عاشت وتعيش في ظل سلطات شمولية استبدادية، هيمنت وتهيمن عليها مربعات أمنية، تأمر وتفرض الإملاءات، والظروف تجبرهم على مسايرتها، ولم أدرجهم على سوية قادة لكردستان إمكانية، نقدتهم على البحث لإيجاد السبل في إغناء تراكماتهم المعرفية، إمكانية اكتساب الدبلوماسية في الحوارات، مع الداخل والخارج، والعمل على تقوية الثقة بالذات في المحافل الدولية، أو في المؤتمرات والاجتماعات المشاركة فيها شرائح المجتمع المستعمر لكردستان، نقدتهم في إيجاد الحلول للتقليل من الإذعان لأوامر السلطات الشمولية، عدم حصر القضية الكردستانية السياسية في أحزابهم فقط، ونوهت لهم عن دونية أحزابهم لمستوى القضية اضطرارا، وفي غيرها من السبل في البحث عن الأمور التي يجب أن ترفع من شأنهم ليكونوا على سوية أحزاب تمثل الشريحة من الشعب الكردي التي يمثلونها. نعلم أن المجتمع تتقدم عليهم؛ وذلك للمقيدات المفروضة عليهم، فجعلتهم دون الشعب وقضيته سوية ونهجا ومتطلبات، فالوباء الذي ابتلي به شعبنا الكردي، هو ذاته الذي يعانونه، ولو كان يظهر بوضوح أو بغموض بين الكرد حسب متطلبات المرحلة. لذلك فعلينا أن نتعلم الصبر، والحوارات الديمقراطية، وتقبل النقد، والابتعاد عن التلاسن عند الاختلافات، ولنعمل على كيفية التحرر من داء النقص، والإملاءات بكليتها.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
26/11/2016