عبدالرحمن كلو
يبدو أن المتغيرات الكبيرة والمعقدة التي عصفت بالشرق الأوسط في السنوات الأخيرة كانت أكبر بكثير من قدرة استيعاب بعض الأحزاب على الساحة الكوردستانية عموماً، فحالة الصراع البسيطة ( غير المركبة ) قبل ظهور داعش والتمدد الايراني في المنطقة كانت تتسم بالكثير من الوضوح في الرؤى والخطوط العريضة للحالة الوطنية الكوردستانية، بخلاف المشهد الحالي لحالة الصراع الذي بات معقداً جدا مع تدخل وتداخل الأطراف الاقليمية والدولية وخاصة بعد تمدد النفوذ الايراني في العراق وسوريا الذي أزاد في المشهد تشويشاً وأفقد البعض البوصلة الوطنية والقومية.
ومن خلال تعقيدات تقاطع الامتيازات الحزبية والشخصية لجأ البعض إلى التغريد خارج السرب الوطني الكوردستاني والاستقواء ببغداد وطهران بغية تصحيح وضعها في المعادلة السياسية الداخلية للإقليم أمام الديمقراطي الكوردستاني متذرعة بعلاقات الاقليم مع تركيا، إذ عمدت على اختزال رئاسة الاقليم والمؤسسات الوطنية الكوردستانية بالديمقراطي الكوردستاني، وكأن الديمقراطي في علاقة حزبية مع تركيا( الدولة)، علماً أن هذه الأحزاب كانت ومازالت جزءاً مؤسسات الاقليم السياسية والاقتصادية ولم تغادر هذه المؤسسات حتى الآن وهي مشاركة في كل مفاصل سلطاته التنفيذية والتشريعية بموجب توافقات سياسية أسست لحكومة ائتلافية وبرلمان ورئاسة، لكنها أرادت أن تلعب دور المعارضة في الوقت الذي هي فيه شريكة أساسية للسلطة، وهي بهذه الازدواجية في الموقف فقدت توازنها السياسي حتى باتت تلعب خارج الملعب الوطني لذلك نراها معارضة عدمية ترفض بالمطلق كل ما هو وطني كوردستاني إلى درجة أن وصل ببعضهم وصف البيشمركة بالميليشيات وتجاهل تضحياتهم التي باتت مفخرة للعالم بأجمعه، كما تحول هذا الرفض الالغائي المطلق إلى رفض الاستفتاء وإعلان الدولة المستقلة لأن المبادرة من جانب الرئيس بارزاني، حيث اختلط عليهم الأمر وفقدوا قدرة التمييز بين البارزاني والديمقراطي وبين الثوابت الوطنية الكوردستانية وعليه يأتي الرفض كلياً دون التفكير بتفكيك عناصر أية مبادرة ما زالت من جانب الرئيس بارزاني فهي مرفوضة، وهنا يعترينا تساؤل مشروع : لماذا هذا الرفض الكلي غير المجزأ ولماذا هذا الخلط والبعض منهم له تاريخ نضالي طويل في صفوف الحركة الوطنية الكوردستانية؟ لماذا هذا التحول المفاجئ؟ الجواب على هذا التساؤل ليس بالبساطة الكافية، لكن من الضرورة توضيح ما قد يصعب على الفهم، بعبارات وجيزة وواضحة يمكن القول أن مرحلة نتائج الحروب الاستعمارية في القرن العشرين انتهت وفقدت صلاحياتها على صعيد الشرق الأوسط منذ سبتمبر عام 2001 ، والشرق الأوسط يخضع إلى عملية فوضوية خلاقة لإعادة هيكلته من جديد بما يتناسب مع مصالح الأمن القومي الأمريكي، وإعادة تأهيل أنظمة وتقسيم دول قائمة مثل العراق وسوريا كمرحلة أولى جزء من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، أي أن استقلال جنوب كوردستان بات أمراً حتمياً بعد كان حلماً من أحلام الكورد في القرن العشرين، وإيران التي استثمرت ومازالت تستثمر هامش مناخات الحرب على الارهاب وتدفع بمشروعها الشيعي العقائدي إلى خارج الحدود وبشكل معلن خارج سياقات كل القوانين والأعراف الدولية لن تقبل بأي حال تقسيم العراق على حساب مشروعها إضافة إلى خطورة الدولة الجديدة على إيران ذاتها، لذا فهي لن تقبل بإسرائيل ثانية في العراق وعلى حدودها كما يأتي على لسان كبار قادتها السياسيين والعسكريين، لذلك نراها استثمرت الخلافات الحزبية التقليدية داخل الاقليم وباتت حاضراً قوياً في الشأن الوطني الكوردستاني وهي تسعى جاهدة لتحويل الحالة الوطنية الكوردستانية وتفتيتها إلى حالات حزبية وامتيازات ومناصب، وحولت الكتلة النيابية الكوردستانية في البرلمان العراقي إلى كتل حزبية، وهي الآن تستبق الأحداث وتستعجل أمرها حيث أنشأت جيشاً موازياً للجيش العراقي من خلال الميليشيات الشيعية التي تتمركز في تل عفر وفي شنكال بتنسيق محكم مع العمال الكوردستاني بانتظار تنفيذ الممر البري الايراني باتجاه سوريا، ومرر قانون الحشد الشعبي في البرلمان العراقي بأصوات معظم النواب الكورد من الكتل المعارضة لمشروع البارزاني ، ولم تمرر الفقرة المتعلقة باستحقاقات البيشمركة في قانون الموازنة الفيدرالية، في الوقت الذي تخوض فيه البيشمركة حرباً عالمية ضد الارهاب وترسم حدود الدولة واقعاً على الأرض، وعلى الرغم من ذلك تتجاهل هذه القوى وبشكل متعمد خطورة المشروع الايراني الطائفي على المشروع الوطني الكوردستاني، وهم على يقين أن التجربة الايرانية تستنسخ عراقياً وأن العراق باتت جزءاً من دولة ولاية الفقيه.
وأية محاولة من قبيل إلغاء شكل العلاقة بين بغداد وكوردستان كإقليم فيدرالي بخصوصية جغرافية سياسية بموجب الدستور العراقي تعتبر خيانة وطنية ، كما أن حالة اللغط الكبير التي تتعمده هذه القوى بالخلط بين الحالة الوطنية الكوردستانية والحالة الحزبية من جهة وبين موقع تركيا وموقع إيران بالنسبة للقضية الكوردية ومنظومة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تربطها أوثق العلاقات مع إقليم جنوب كوردستان من جهة أخرى، لا يمكن إلا أن يكون تمادياً وإصرارا على تلك الخيانة لأن كوردستان والتي هي حالة وطنية جغرافية سياسية لا تقبل الاختزال والتفتيت مهما كان نوع الخلاف الحزبي وأياً كانت درجات هذا الخلاف.