م.رشيد
نشاهد في الآونة الأخيرة مساعٍ جادة وحثيثة من قبل بعض أطراف الحركة السياسية الكوردية في أجزاء كوردستان للترويج والتمهيد والاستعداد ضمن إطار التنافس والتسابق مع الخصوم السياسيين من الكورد، والترجمة العملية للثقافة التابعية المكتسبة من الواقع المعاش في ظل سلطة ورقابة الأجهزة الأمنية التابعة للأنظمة الحاكمة منذ تأسيسها، تلك الثقافة المترسخة في ذهنيتها وسلوكيتها، والتبرير لاخفاقاتها في تدويل القضية الكوردية وعدم وضعها في المسار الصحيح لمعالجتها بالشكل المناسب والمطلوب، وذلك لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية ضيقة وزائلة عبر المزايدات المشبوهة والمحظورة للانخراط في مشاريع الدول المقتسمة لكوردستان، التي تعارض التغيير والتجديد في الخارطة السياسية تحت شعارات السيادة ووحدة الشعب والأرض، متجاهلة المصائب التي ألمت بشعوبها جراء سياساتها الشوفينية الرعناء والحمقاء، التي اتبعتها في بلدانها ضاربة عرض الحائط كافة القيم والمعايير الانسانية والوطنية والدينية.
نحذّر تلك الأطراف بأحكام التاريخ الذي لا يرحم من مغبة عقد صفقات آنية زهيدة وزائفة وبائسة على حساب قضية الشعب الكوردي، متناسية التجارب المريرة والخائبة التي خاضتها مع تلك الأنظمة، ومتجاهلة الشروط والظروف الذاتية والموضوعية الواجب توفرها قبل الشروع في أي عملٍ تفاوضي مع أي جهة كانت، ونذكّر تلك الجهات اللاهثة خلف الحلول الاقليمية والمحلية المقترحة شكلاً والمبهمة نصاً والمؤجلة تنفيذاً بأن الكورد صعّدوا من وتيرة نضالهم التحرري (باعتباره واجب قومي ووطني، والتزام أخلاقي وإنساني تجاه الشعب والوطن ليس إلا)، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، التي قسم المنتصرون فيها كوردستان وألحقوا أجزاءها بدول اقليمية أحدثوها بموجب معاهدات استعمارية لتحافظ على مصالح دولها وتضمن أمنها القومي.
حكمت تلك الدول الناشئة أنظمة دكتاتورية شمولية طبقت أقسى وأبشع المشاريع الاستثنائية والقوانين العنصرية للنيل من الكورد وطمس هويتهم وتذويبهم في بوتقة القوميات السائدة حيث وصلت بهم عدوانيتهم لإرتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي من خلال عمليات التجويع والتهجير والتدمير الممنهجة كحملات الأنفال السيئة الصيت واستخدام السلاح الكيميائي المحرم دولياً في حلبجة بالعراق، وتطبيق مشروعي الحزام العربي والإحصاء الاستثنائي الجائرين في سوريا (وهذا غيض من فيض للذكر لا الحصر) وكذلك في إيران وتركيا.
استمرت الأنظمة المقتسمة لكوردستان بسياساتها الشوفينية العدائية تجاه الكورد(للأسف) تحت مسامع ومرأى الرأي العام العالمي الذي كانت تصنعه وتديره الدول العظمى صانعو القرار في العالم، التي إلتزمت الصمت حيال تلك الانتهاكات الصارخة دون أن تحرك ساكناً لإيقافها أو منعها ومعاقبة جناتها والمسؤولين عنها.
الآن وقد تبدّلت الظروف وتغيّرت الأوضاع بالتزامن مع التطورات التقنية الهائلة لا سيما في مجال الإعلام والاتصالات تحت عنوان العولمة التي جعلت من الكرة الأرضية قريةً صغيرة، ومعها تغيرت السياسات والخطط والمشاريع على الصعيدين العالمي والمناطقي ومنها الشرق الأوسط الحبلى بالقضايا والأزمات المعقدة والمزمنة، والتي تحتاج إلى حلولٍ جدية وجذرية لضمان الأمن والسلام في العالم أجمع في ظل تصاعد التيارات الإرهابية المتطرفة وتعاظم دورها واتساع رقعة انتشارها في كافة المجالات والنواحي مهددةً الأمن والسلم والاستقرار.
لقد كانت الشرارة الأولى للربيع العربي بارقة أملٍ وفاتحة خيرٍ للمضطهدين والمظلومين الرازحين تحت نير أنظمة الاستبداد والفساد كي تتخلص من بؤسها ومعاناتها وتعيش بحرية وكرامة أسوة بغيرها، والكورد من أوائل المتفائلين والمتفاعلين مع الأحداث، متأملين ومتطلعين إلى الإصلاح والتجديد والتغيير في البنى والهياكل القائمة نحو نماذج أكثر قدرةً وحداثةً وملاءمةً لمواكبة متطلبات العصر كي توفر الحقوق والفرص والمؤهلات وفق قواعد ديموقراطية وإنسانية كما تقره القوانين والمواثيق الدولية.
انخرط الكورد في الصراع الدائر إلى جانب دعاة الحرية وأنصارالسلام ضد قوى الظلام والإجرام بكل أشكالها وألوانها، فأصبحوا من المحاربين الأساسيين المعتمدين في مقارعة المجاميع الإرهابية المسلحة كداعش وأخواتها والنصرة ومثيلاتها بمشاركة التحالف الدولي لمحاربة الارهاب، وقدموا (ومازلوا يقدمون) تضحيات كبيرة وكثيرة بالمال والأرواح في هذا الصراع وأبرز الشواهد هي كوباني البطلة وشنكال الجريحة، اللتان أصبحتا أيقوناتٍ للتراجيديا الكوردية وقرابين للحضارة والمدنية في العالم.
ينتظر الكورد من العالم الحر المتمدن والمتقدم المزيد من المساندة والدعم للتغلب على خوفهم وضعفهم، وتجاوز محنهم وأزماتهم، التي أوجدتها ومكنتها تراكمات عقود طويلة ومريرة من الحيف والعسف، والغبن والحرمان، والظلم والبطش، التي لحقت بهم بسبب لعنتي التقسيم الأولى (جالديران) والثانية (سايكس بيكو).
وفي الوقت الذي يتدخل الغرب والشرق معاً بشكلٍ مباشر في منطقتنا (ولأول مرة في التاريخ) مقدمين العون والمؤازرة والمشورة للقوات الكوردية المقاتلة (YPG ,PÊŞMERGE) على الأرض عسكرياً ولوجستياً يزداد الكورد تفاؤلاً، وينتظرون المزيد من التعاون والتنسيق وعلى كافة الأصعدة ولاسيما سياسياً وذلك لقطع الطريق أمام دسائس ومؤامرات الدول المقتسمة لكوردستان وحلفائها وامتداداتها، وإفشال مخططاتها وابطال محاولاتها الرامية إلى إجهاض كافة الجهود والمساعي المبذولة من قبل الحلفاء والأصدقاء لتثبيت حضور الكورد وتفعيل دورهم لنيل حقوقهم العادلة والمشروعة.
وبالمقابل نلاحظ حراكاً ونشاطاً مكثفين من قبل القوى والتيارات الشوفينية من القوميات السائدة في كوردستان (المعارضة والموالاة على حدٍ سواء) عن سابق إصرارٍ وتصميمٍ وبشكلٍ منظم لتنسيق المهام وتوزيع الأدوار فيما بينها (استخباراتياً ودبلوماسياً وعسكرياً وأعلامياً..) غايتها تفتيت البيت الكوردي وتحريف بوصلته وتشويه قضيته وتزييف حقيقته…، مستخدمةً في ذلك كافة الوسائل والسبل من الترهيب والترغيب لتفويت الفرصة السانحة للكورد وإخراجهم من المرحلة المفصلية الراهنة خاليي اليدين، وافراغ نضالاتهم من محتواها ومغزاها، وإعادتهم إلى المربع الأول حيث الضياع والانصياع وعهد الاستبداد والاضطهاد لصالح القوميات السائدة تحت عنوان الأخوة في الدين أو العرق أو التراب ..، وبالتالي ثنيهم عن إعلان كيانٍ مستقل خاص بهم، يحمل اسمهم ويحافظ على هويتهم ويحمي خصوصيتهم، وذلك بتقويض المرتكزات والمستلزمات والثوابت، وهي أن الطريق الصحيح والمضمون الذي يقودهم إلى هدفهم المنشود هو توفّر الإرادة الدولية التي كانت غائبةً أو مانعةً في معظم الأحداث والأزمان سابقاً، إضافةً إلى تهيئة العامل الذاتي وذلك بتوحيد الصفوف والجهود والمواقف ونبذ الخلافات البينية، والأهم هوالتحرر من ادعاءات وإملاء وإغراءات الدول الإقليمية وعدم الوثوق بوعودها وعدم الانخراط في مشاريعها مهما كانت منمقةً وبراقة لأنها وبالنهاية مكايدٌ ومصايد، فالمراهنة عليها بدون ضماناتٍ دولية ستكون عواقبها وخيمة ولن تجلب للكورد سوى الانهيار والدمار في التطلعات والطموحات.
لهذا يتطلب اتخاذ أعلى درجات الحذر والحيطة واليقظة من المبادرات الإقليمية المطروحة سابقاً ولاحقاً، ورفضها شكلاً ومضموناً، وذلك بعزل ولجم المتورطين فيها وتعرية المتحمسين لها من الوسط الكردي من خلال رصّ الصفوف عبر حلقات التحاور والتفاهم والتوافق على برامج وخطط (تكتيكية – إستراتيجية) قابلة للتنفيذ بالتشاور والتنسيق مع أصحاب القرار في العالم والتقاطع مع أجنداتها، وبالتعاون والتشارك مع القوى الديمقراطية والوطنية الحقيقية والفاعلة من باقي مكونات المنطقة الإثنية والدينية والمذهبية.. لبناء أوطان جديدة يعيش فيها الجميع على قدرٍ كافٍ من المساواة في الحقوق والواجبات، وشراكةٍ فعليةٍ في السلطات والثروات دون تمييزٍ أو تفضيل.
وما الارهاصات والموبقات والمناكفات والمشاحنات التي تظهر هنا وهناك (في كافة أجزاء كوردستان) إلا أعراضٌ وإفرازاتٌ للأزمة الخانقة قبل المخاض والتي تفتعلها الدول الاقليمية الممانعة، لأن الورقة الكوردية أصبحت رقماً صعباً ومعتبراً وأساسياً في المعادلات والحسابات الدولية والاقليمية لا يمكن إهماله أو تجاهله أو تجاوزه، لذا يجب عدم التفريط والاستهتار بها، بل ينبغي استخدامها واستثمارها بكل دقة وحكمة وأمانة وجرأة لصالح القضية القومية حتى لا تتكرر لوزان والجزائر، والمسؤولية يتحملها كل معني ومهتم بالشأن الكوردي وبخاصة الأحرار والعقلاء من القادة والزعماء.
————- انتهت —————
22-06-2016
ملحوظة : نشر المقال في صحيفة “Buyerpress” العدد(46) تاريخ 2016/7/1